العدد 1745 - السبت 16 يونيو 2007م الموافق 30 جمادى الأولى 1428هـ

مشاهد ثلاثة... وخطوات اضطرارية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ثلاثة مشاهد حصلت أمس الأول في العراق وفلسطين ولبنان تعطي فكرة موجزة عن مدى نجاح فلسفة «الفوضى البناءة» أو الهدّامة أو الخلاقة في منطقة تكتظ بالطوائف والمذاهب والأقليات والأكثريات النسبية مضافا إليها سياسات متخلفة في وعيها الاستراتيجي.

المشهد الأول وقع في البصرة حين أقدم مجهولون على نسف مرقد الصحابي طلحة بن عبيد الله انتقاما من إقدام مجهولين على نسف المئذنتين في بقايا مرقد الإمامين العسكريين في سامراء.

المشهد الثاني وقع في غزة إذ أقدم ملثم من «حماس» على دوس كوفية ياسر عرفات (أبوعمّار) في مقر الرئاسة في القطاع. فالملثم يتباهى بهذا الإنجاز السياسي إذ نجح في الانتقام من صورة قائد الثورة الفلسطينية التي وقعت أرضا بسبب القصف والاقتحام.

المشهد الثالث وقع في بيروت خلال نقل محطة تلفزيونية وقائع تشييع النائب القاضي وليد عيدو. وبطلة القصة مذيعة أخبار تعمل في مؤسسة تابعة لرئيس مجلس النواب نبيه بري. فهذه المذيعة نقلت في الهواء ما يقال عادة في الغرف السرية وعكست بعفوية أجواء الشحن الطائفي والمذهبي التي تعصف بالشوارع اللبنانية منذ التمديد للرئيس إميل لحود وصدور القرار الدولي 1559. بكل بساطة قالت المذيعة ما تسمعه يوميا وما يقال في الكواليس والدهاليز فهي شمتت من اغتيال عيدو وتمنت أن يكون الدورالمقبل لوزير الداخلية أحمد فتفت.

المشاهد الثلاثة المذكورة تلخص علاقات الأهل ودرجة الاستقطاب الطائفي أو المذهبي المعطوف على الاستنفار السياسي الأهوج الذي يرفض لغة الحوار ويلجأ إلى التخوين والتكفير والتهديد والتخويف. فاللغة حين تتحوّل إلى سلاح قاتل فمعنى ذلك أنها تؤسس قواعد سياسية لمخاطر تقوّض العلاقات الأهلية وتبعثر العمران الاجتماعي. واستخدام هذه اللغة في التخاطب اليومي بين القوى السياسية يؤدي بطبيعة الحال إلى تحويل العلاقات الأهلية إلى نزاع يوتر الأعصاب ويثير الشتائم والسباب بين الناس. وما حصل ويحصل في العراق وفلسطين ولبنان ليست تجاوزات فردية أو أخطاء فنية أو تصرفات يرتكبها شذاذ آفاق. فهذه الأفعال الظاهرة هي نتيجة مسلكيات يومية وتحريض دائم اكتشفت الإدارة الأميركية أنه وسيلة مباشرة يحقق لها أهدافها البعيدة المدى.

لغة التخوين والتكفير والتهديد والتخويف ليست جديدة في سوق التداول العربية. فهي قديمة والولايات المتحدة حين استولت على العراق في العام 2003 اشتغلت عليها وقامت بتوظيفها وتحويلها إلى مشروعات سياسية تقسيمية تخدم على الأمد الطويل استراتيجية التقويض وتكتيكات «الفوضى الهدامة». أميركا لم تبدأ مشروعها من فراغ ولكنها نجحت في استخدام مفردات في سوق اللغات المتداولة في الكواليس والدهاليز والغرف السرية وتحديثها وتكييفها مع واقع متآكل ينخره الدود والسوس.

منذ الأسبوع الأول للاحتلال ألغت وسائل الإعلام الأميركية كلمة «العراق» من قاموس التداول اليومي. فالعراقي فجأة اختفى من الصورة وحلّ مكانه السني والشيعي والكردي والعربي والفارسي والتركماني والزيدي واليزيدي والأشوري. وعلى أساس هذا التقسيم لجأت إدارة الاحتلال إلى اختلاق دستور يعكس هذه الصورة الفسيفسائية تشبه ذاك الكوكتيل اللبناني (صيغة التعايش القلقة والمتوترة والمضطربة).

أميركا إذا وفي المعنى المذكور نجحت إلى حد كبير في مشروعها التقويضي حتى لو ادعت الضعف أو تظاهرت بالفشل. فما تريده لم تعلن عنه، وما تعلن عنه لا تريده. فهي تستنكر يوميا الأفعال الطائفية والأعمال المذهبية التي حصلت وتحصل في العراق وهي تسارع إلى اتهام «القاعدة» وميليشيات حتى تتنصل من المسئولية وترفع التهمة عن الاحتلال.

الأمر نفسه يحصل في لبنان. فالكل يستنكر الاغتيالات ويطالب بالتحقيق لمعرفة الجاني ويؤكد حرصه على كشف الحقيقة ورفع ميزان العدالة وجلب المجرمين إلى المحاكمة. وحين تطل مذيعة أخبار على محطة يملكها الرجل الثاني في الجمهورية اللبنانية ينكشف الوجه الآخر من سياسة تتحكّم بها لغة متهورة اشتغلت أميركا على تأسيس مفرداتها وتطويرها وتحديثها لإعادة توظيفها في مشروع تقسيمي (طائفي، مذهبي، ومناطقي) يمتد من بلاد الرافدين إلى بلاد الأرز واستتباعا إلى غزة.

الكلام الذي قالته المذيعة ليس خطأ فنيا أدركته المحطة بعد فوات الأوان وإنما لغة تتحكم بالشوارع اللبنانية التي تخضع إلى سيكولوجية الطوائف والمذاهب. وهذا السلوك تكرر خلال تشييع عيدو إذ أخذ الجمهور يطلق شعارات ويوجّه السباب والشتائم إلى طوائف ومذاهب وزعماء أحزاب وميليشيات من الضفة الآخرى. فالحادث المريع والمؤلم والمفزع لم يمنع جمهور المشيعين من تنفيس لغة متداولة في شعاب الطوائف ودهاليز المذاهب وكواليس السياسة.

حملات استنكار

السياسيون اللبنانيون يستنكرون طبعا ويرفعون عن أكتافهم المسئولية ويتهمون صغار العقول بالتشويش عليهم. وهذا ما فعله بري حين طرد المذيعة من وظيفتها. والطرد لا يعني أن المستور لن يأخذ فرصته مرة أخرى للظهور في أشكال ومظاهر مختلفة. فالشارع في النهاية أقوى من الزعماء حين يقرر القادة مغادرة مواقع المسئولية والانسياق إلى الغرائز وما تعنيه من انفلات لضوابط العقل. والتعبئة النفسية تولد بقوة ذاتية ثقافة الكراهية وتطلق شرارات الحقد. وهذا ما حصل وتكرر لكبار القادة حتى أولئك الذين بلغوا درجة عالية من الاحترام والتقليد.

الشارع أقوى ؛لأنه يملك آليات تحتاج من القادة الكبار «الدفعة الأولى» وبعدها تأخذ الحركة تطلق شراراتها الذاتية من دون عودة للكبار والقادة والزعماء. أكثر من مرة اصدر السيدعلي السيستاني تحذيرات وتنبيهات وفتاوى تطالب الناس بضبط النفس والامتناع عن الرد. كذلك فعل الأمر نفسه السيد مقتدى الصدر، وأيضا السيدحسن نصرالله. وكل هذا لم ينفع في وقف التوتر في الشارع. فالشارع يملك توجيهات مستقلة تنتجها آليات تتحكم في حركتها قوانين أخرى لا علاقة لها بالحسابات الواقعية والتفكير الموضوعي والعقلاني.

في المقابل تكرر السيناريو نفسه. فهناك أكثر من نداء وفتوى تحريم وخطب جوامع أطلقتها مراجع الأزهر ومفتي مصر ومفتي لبنان والشيخ يوسف القرضاوي وغيره من علماء وفقهاء ورجال دين ذهبت كلها أدراج رياح انفعالات الشارع وآلياته المستقلة والبعيدة عن الوعي ورؤية الكوارث التي ألحقتها الولايات المتحدة بالمنطقة.

هناك إذا مصيبة أو مصائب تنتظر لحظة ولادة «الشرق الأوسط الجديد» بحسب وصف وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس خلال فترة العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في الصيف الماضي. مضى الآن قرابة 11 شهرا على توقيت اللقاح وتأخر الوليد بالخروج من الرحم تمنعا أو خوفا. إلا أن النتائج الكارثية التي تمخضت عنها سياسة «الفوضى البناءة» بدأت ترسم صورة ذاك الوليد المنتظر. فالصورة بشعة ومقرفة ومثيرة للاشمئزاز وهذا بالضبط ما خططت له الولايات المتحدة منذ البداية. فالإدارة الأميركية نجحت في مهمتها مهما ادعت البراءة وانسحبت من المسئولية.

وكل كلام الاستنكار الذي يصدر عن جورج بوش أو وزير دفاعه أو وزيرة خارجيته هو كذب في كذب ومحاولات للتهرب من مستقبل أسهم الاحتلال في تشكيله وتصنيعه وتحديثه مستخدما مواد أولية (طوائف، مذاهب، مناطق) كانت موجودة في باطن الأرض. فالمنطقة تحتوي احتياطات من التخلّف السياسي توازي تلك الاحتياطات الهائلة من النفط والغاز.

طبعا حملات الاستنكار الأميركية لكوارث المنطقة كاذبة بينما حملات الاستنكار العربية والإسلامية صادقة. ولكن كفة الكذب أقوى من كفة الصدق ؛لأن واشنطن تعتمد على الشارع وآلياته بينما القادة والزعماء والعلماء يعتمدون لغة ساهمت من دون وعي في إطلاق توترات كانت مدفونة في الكواليس والدهاليز والشعاب.

المشاهد الثلاثة التي ظهرت في البصرة (نسف مرقد) وبيروت (كلام مذيعة) وغزة (دوس كوفية عرفات) تختصر الكثير من المسافات وتؤشر بوضوح إلى ذاك الوليد المنتظر. ففي العراق ستظهر على الشاشة فيدراليات طائفية ومذهبية.

وفي لبنان سيعاد تشكيل الكيان في صيغة «كانتونات». أمّا في فلسطين فإن النتائج الأولية أفرزت «دويلة» في غزة تنافس سلطة محمود عباس في الضفة. وهذا الانقسام الفلسطيني الذي حسم ازدواجية السلطة ووزعها إلى حكومتين شجّع المتحدثة باسم حكومة إيهود أولمرت إلى التصريح بأن ما حدث «شأن فلسطيني داخلي. لا نية لنا بالدخول إلى غزة». فالصورة التي نقلتها وكالات الأنباء عن دوس ملثم من «حماس» بحذائه كوفية عرفات كافية في إشاراتها ورموزها إلى تطمين تل أبيب. فالصورة واضحة في دلالاتها السياسية وهي تأكدت حين سارع رئيس المكتب السياسي في «حماس» إلى توضيح الموقف، مشيرا إلى أن ما حصل في غزة «خطوة اضطرارية».

هذه «الخطوة الاضطرارية» سنشهد الكثير منها في ساحات فلسطين والعراق ولبنان. وهي كلها تصب في سياسات «الفوضى الهدّامة» ومشروع تقويض «الشرق الأوسط». وبعد أن تفعل فعلها هذه الخطوات الاضطرارية ميدانيا يمكن آنذاك أن نسمع عن بدء انسحاب القوات الأميركية من العراق أو تجميعها مؤقتا في قواعد عسكرية ومهابط طيران.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1745 - السبت 16 يونيو 2007م الموافق 30 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً