العدد 1744 - الجمعة 15 يونيو 2007م الموافق 29 جمادى الأولى 1428هـ

«الفوضى الهدّامة» وأدواتها

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الكثير من محطات التلفزة والفضائيات تعاملت مع الجرائم الثلاث التي وقعت في يوم واحد في سامراء وبيروت وغزة في سياق خبر مشترك. بعض الصحف في لبنان مثلا وضعت الجرائم الثلاث تحت عنوان واحد معتبرة أن ما حصل يندرج في مجرى واحد.

هذا الجمع بين الجرائم الثلاث يتضمن بعض الصحة من ناحية القراءة التحليلية للنتائج. فالتداعيات واحدة في سلبياتها على رغم ان الفاعل يختلف وليس بالضرورة هو نفسه. فالفاعل المجهول/ المعلوم في العراق هو غير الفاعل المجهول/ المعلوم في لبنان. والفاعل المعلوم/ المجهول في غزة ليس هو الذي ارتكب جريمة نسف ما تبقى من مسجد الإمامين العسكريين في سامراء أو ذاك الذي قرر الاستمرار في سياسة الاجتثاث في لبنان.

هناك أكثر من فاعل ولكن النتيجة واحدة والدافع بين الجرائم الثلاث يؤدي إلى تداعيات سلبية متشابهة وربما لهذا السبب أقدمت بعض الصحف اليومية على وضع الأفعال الثلاثة تحت خط واحد وضمن عنوان عريض مشترك. وهذا التصرف المهني يقارب الصحة من حيث التعامل مع حوادث ثلاثة وقعت في ثلاث مناطق عربية متباعدة.

في العنوان العريض هناك جامع يربط الجرائم الثلاث، بينما هناك اختلافات في التفصيلات من جهة الطرف الفاعل. في العراق اتهم رئيس الحكومة نوري المالكي تنظيم «القاعدة» بارتكاب جريمة النسف وتحدث عن احتمال وجود اختراق للمجموعة المكلفة بحماية المرقد. إلا أن إيران اتهمت الولايات المتحدة بتدبير الجريمة، بينما حمّل التيار الصدري قوات الاحتلال مسئولية ما حصل في سامراء.

في لبنان انقسهم البلد على عادته في تحديد الطرف المسئول عن ارتكاب الجريمة. فالتيار الاكثري (14 آذار) وجه أصبع الاتهام إلى سورية وحمّل دمشق مسئولية ارتكاب الجريمة الإرهابية وطالب جامعة الدول العربية بتوفير الحماية لبلد يتعرض إلى حرب اغتيالات. ورد التيار الأقلي (8 آذار) التهمة عن دمشق وطالب بالتحقيق العدلي قبل توجيه السهام إلى طرف معين.

في غزة اختلف الوضع. فحركة «حماس» أعلنت الانتصار الميداني على حركة «فتح» وتفاخرت بتحقيق إنجاز سياسي وتباهت بأنها نجحت في احتلال مواقع فلسطينية وقتل أنصار تنظيم ينتمي إلى طرف منافس في سلطة تعاني من نحو السنتين ازدواجية في القرار.

المسألة في غزة مختلفة إذا عما حصل في سامراء وبيروت. فالجهة الفاعلة في القطاع معروفة وهي لم تخجل في إعلان الانتصار وتحرير غزة من خصم سياسي فلسطيني الهوية والانتماء. بينما الجهة الفاعلة في سامراء وبيروت معلومة ومجهولة في آن. وإذا كان الأمر كذلك لماذا إذا وضعت بعض الصحف الجرائم الثلاث تحت عنوان عريض واحد؟

يرجح أن يكون الدافع وراء هذا العمل المهني هو النتيجة. فالنتيجة واحدة حتى لو اختلفت الأسباب. والتداعيات متشابهة حتى لو اختلف الفاعل. ولأن النتائج متقاربة في سلبياتها يمكن بالتالي الاعتماد عليها لمعرفة الدوافع والأسباب المشتركة التي تجمع بين الجرائم الثلاث.

النتيجة احيانا تساعد المحقق أو المتابع على رسم صورة توضيحية للفاعل وربما تسهل عملية البحث عن الأسباب والدوافع حتى لو اختلفت مصادر الجريمة وأدواتها. فما الذي يجمع بين الحوادث الثلاثة التي وقعت في يوم واحد في سامراء وبيروت وغزة حتى دفعت بعض الصحف لوضعها تحت عنوان مشترك؟

نظرية الهدم

هناك مثلا نظرية الفوضى البناءة/ الهدامة التي تقول بها جهات فاعلة في «البيت الأبيض». والنظرية تقوم على معادلة سياسية وهي تقويض الدولة ومنع الجماعات الأهلية من التصالح لاعادة تأسيس كيان وطني جامع. فالفوضى تعني الغاء السياسة وترك الساحات تتقاتل وتتذابح لأسباب مجهولة/ معلومة ولكنها تؤدي في النهاية إلى وظيفة ميدانية وهي منع الدولة من النهوض وتوتير العلاقات الأهلية ودفعها نحو التصادم العلني حتى تتأسس دويلات صغيرة وضعيفة في مناطق منعزلة وغير قابلة للحياة.

هذه النظرية (الفوضى البناءة أو الخلاقة أو الهدامة) تقول بها قوى أميركية وصاحبة قرار في التأثير على توجيه استراتيجية الولايات المتحدة. وتملك النظرية المذكورة من الخبث ما يكفي لاشعال مناطق تكثر فيها العصبيات الطائفية والمذهبية والمناطقية والاقوامية في العراق ولبنان أو العصبيات العائلية والعشائرية والجهوية كما هو حال فلسطين. فالنظرية تستند إلى منطقة خصبة بالتعارضات والتناقضات والعصبيات (مضافا إليها التخلف السياسي) لتوفير أسباب نجاحها. وبما ان المادة جاهزة للاشتعال فإن الوسائل والأدوات والقوى المستعدة للتنفيذ موجودة بكثرة حتى لو رفعت شعارات ايديولوجية مخالفة للسياسة الأميركية. فأصحاب نظرية الهدم والتفكيك والاحتراب لا يكترثون كثيرا بالقنوات التي تمرر لهم المشروع التقويضي للدولة والأهل بقدر ما يهمهم أن تكون تلك الأدوات قادرة على الفعل.

الفاعل إذا ليس بالضرورة أن يكون هو نفسه في سامراء وبيروت وغزة، لأن الأساس عند أصحاب هذه النظرية التقويضية هو الفعل ونتائجه الميدانية. وبهذا المعنى كل الفعلة في المواقع الثلاثة ينفذون السياسة نفسها ولمصلحة المشروع نفسه وإن اختلفت الوسائل والأدوات والقنوات.

في العراق استهدفت عملية نسف المئذنتين استدراج ردود فعل ضد مساجد السنة وحرقها وتدميرها. فالفاعل الذي أقدم على جريمة النسف خطط للأمر وكان على علم مسبق بردود الفعل. وهذا في النتيجة يصب في مشروع التقويض ومنع الدولة المشتركة من العودة وتعطيل إمكانات التفاهم بين التلاوين والأطياف العراقية. فالنتيجة إذا تذهب نحو تكريس الانقسام وبناء قواعد أهلية لتبرير التقسيم وبناء دويلات طوائف ومذاهب ومناطق في بلاد الرافدين.

في بلاد الأرز استهدفت عملية اغتيال النائب القاضي وأحد قادة التيار الناصري العروبي القومي سابقا منع أحياء الدولة من جديد وتعطيل إمكانات تطوير الإجماع النسبي الذي ظهر من مختلف الأطياف تقريبا في دعم الجيش اللبناني في معركة الدفاع التي يخوضها ضد شلة باغية وغير معروفة الهوية والعنوان في مخيم «نهر البارد» في الشمال. فهذا الإجماع اللبناني الخجول والمغلف بالألوان في دعم جيش الدولة أربك صواب نظرية «الفوضى الهدامة» التي وجدت في ذاك الالتفاف المحلي على خط وطني مشترك خطوة قد تعطل سياسة التفكيك التي تراهن على ضعف الدولة وعدم قدرتها على تحمل مسئولياتها الأمنية أو الدفاع عن حدودها وسيادتها. فالجهة التي وجهت ضربتها استهدفت تعطيل حركة الإجماع النسبي حول جيش الدولة بقصد إعادة النعرات الطائفية والمذهبية والمناطقية إلى الظهور من جديد وإحباط خطة إحياء العناصر المشتركة التي تجمع الأطياف والألوان في مشروع واحد. النتيجة إذا متقاربة في أهدافها مع ما حصل في سامراء، فهي تضغط باتجاه تكريس الانقسام وبناء قواعد أهلية لتبرير تقسيم يعتمد على «كانتونات» لبنانية.

الهدف إذا تحطيم فكرة الدولة ومنع قيام مؤسسات ما فوق طائفية ومذهبية ومناطقية وجرجرة الناس إلى الانكفاء في وحدات متجانسة تسمح بتسهيل مشروع التقسيم والتفكيك. وهذا الهدف المشترك في العراق ولبنان يمكن قراءة بعض تفصيلاته في غزة حتى لو اختلفت الدوافع وتنوعت الأسباب وتشكّلت على أساسه القنوات والأدوات. فالمهم عند أصحاب نظرية «الفوضى البناءة» هو النتيجة وليس هوية المنفذ للمشروع. وما حصل في غزة يصب في هذا الاتجاه، لان المستفيد من الاقتتال السياسي (العائلي والعشائري) هو الكيان الإسرائيلي بغض النظر عن الرابح أو الخاسر في ميدان القطاع. فتل أبيب خططت منذ وصول ارئيل شارون إلى رئاسة الحكومة تحطيم السلطة الفلسطينية (الضعيفة والمشلولة أصلا) التي أسسها ياسر عرفات. فتل أبيب لا تريد سلطة فلسطينية مهما كانت ضعيفة ومشلولة لسبب بسيط وهو انها تؤشر إلى عنوان سياسي قد يشكل في المستقبل نقطة انطلاق لتأسيس دولة حقيقية قابلة للحياة. الهدف الإسرائيلي واضح منذ البداية وهذا ما باشره ميدانيا شارون ردا على مبادرة السلام العربية التي أطلقت بالإجماع في قمّة بيروت وجددت أخيرا في قمّة الرياض.

النتيجة في غزة واحدة وهي إلى حد كبير متشابهة مع تلك التداعيات التي ظهرت على الشاشة السياسية في لبنان والعراق. فالقصد في النهاية ليس من يربح ويخسر وليس المهم من ينفذ الخطة التقويضية للدولة والعلاقات الأهلية وإنما جوهر الموضوع يكمن في النتيجة. وحين تكون النتيجة متقاربة وإن تعددت الأسباب والمسببات يصبح بالإمكان وضع تلك الجرائم الثلاث تحت عنوان صحافي مشترك. فالجمع بين الحوادث الثلاثة مبرر أخلاقيا وسياسيا ومهنيا.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1744 - الجمعة 15 يونيو 2007م الموافق 29 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً