أن تندد وتدين وتشجب وتنكر وتستنكر «التكفيريين» وخطاباتهم «التكفيرية» طالما أنهم قاربوا المساس بالراعي ومن بعده الرعية، فهو أمر ميسور وطبيعي جدا، كما هو الأمر مع تأثيمهم وتنجيسهم وإخراجهم من الملة، وخصوصا إذا ما كان صفوف الإدانة والاستنكار والاستقباح وما شابهها من تصريحات وبيانات معدة سلفا لتسجيل المواقف الولائية ومآثر الطاعة الاجتماعية والسياسية!
ولكن أن تتعامل مع مسألة أو قضية كهذه الخطورة بعقلانية وموضوعية دونما تحفز اجتماعي و»تجمبز» سياسي، فهو أمر يتطلب شيئا من التأني والتأمل وإعادة النظر في قراءة الواقع والوقائع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعاصرة، كما هو يعني أن تتعامل مع هذا الحبل التكفيري مع حبال تكفيرية أخرى، فتفك الأنسجة والعقد والأحابيل التكفيرية المتناسقة والمتضادة لتنتهي إلى حبال ووصال أخرى، فهذا التكفير من ذاك التكفير!
ولا أعتقد أن تكفير «الزملاء» من المترشحين المنافسين في الانتخابات النيابية وحتى البلدية، ونعتهم الاعتباطي والمتهافت بالانتماء إلى «الشيوعية» و»إيران الصفوية» و»الليبرالية» و»الطابور الخامس» هو أمر له وضعيته التكتيكية والسياسية الخاصة التي تعصم ممارسها من الخضوع للمحاسبة والمزاولة وتحميه من أن يصنف كتكفيري!
فتكفير المنافسين سياسيا وانتخابيا ومحاولة إقصائهم وطردهم ونبذهم مجتمعيا ودينيا لفروقات سياسية طبيعية لا يفقهها هؤلاء يخرج من ذات المحاضن الموبوءة بتورم «الحقيقة المطلقة» إلى حد التوثين، فلا تختلف حينها «الحقيقة المطلقة» عن «المصلحة المطلقة»، ولا يختلف البعد السياسي الدنيوي المدنس عن الأفق الديني الأخروي المقدس في ما يقود إلى تأصيل الفقه السياسي، وابتذال الشرع الديني كما هو حاصل لدينا حيث المصلحة تدير الدين لا الدين هو الذي يدير المصلحة والمنفعة.
فذهنيات وذاتيات وثقافات التكفير لا تختلف عن بعضها بعضا في حسابها التكفيري المبتعد عن الفواصل، وحسها وذوقها التكفيري المبتعد عن رحابة تعرجات الفكر وسعته الدينية والدنيوية، فهي في كل الحالات لا تتردد في إلغاء الآخر أكان فردا متسلطا أم مجتمعا خاضعا أو راع أم رعية، فجميع السجلات السوداء الحافلة بخانات اللعن والإقصاء والحرمان متوافرة وموجودة على وجه الدوام في جميع الأذرع والفروع، فمثل هذا الطابع الفكري الممسوس «سوسيولجيا» هو طابع ذو أذرع عامة لا يمكن اجتزاء بعضها وغض الطرف عن الأذرع الأخرى، وعن امتداد ذات النسيج العصبي، ولا يمكن بالتالي نسبة التكفير إلى حزب وفئة وطائفة وتيار من دون الأخرى كمعابة وسبة وابتزاز، فمثل هذا التكفير هو حس وذوق اجتماعي إنساني مشترك قابل لأن يكون سنيا وشيعيا وعلمانيا وليبراليا ووطنيا!
ولعل ما نشرته «الوسط» بشأن القول والاعتقاد المشار إليه «سلفيا» بأن الدخول والمشاركة في التجربة البرلمانية، وقبلها ضمن حقل الاشتغال والانشغال الاجتماعي السياسي هو بمثابة «عمل منكر أصغر لدرء منكر أكبر» لربما اعتد مؤشرا وجرسا منذرا بالنمط التكفيري ذاته الذي لا يرى في نفسه إلا مطلق الصواب والثبات على الحق، وإدراك كامل الحقيقة، وهو الأولى بتسيد المشهد السياسي الديني وغيره من مشاهد للحيلولة دون وصول «أعداء الأمة» و«أعداء الدين» من أصحاب الآراء والرؤى الأخرى المغايرة ولو سياسيا، فهذه هي غزوة «... «كبرى وإن كانت منكرا ضد منكر!».
وهنا نحن ننصح هذه العقليات الإقصائية والطاقات التكفيرية بأن تتوجه لذاتها وتستغلها على أحسن وجه بعد أن اختارت لها عضوية «المنكر البرلماني الأصغر» لتحارب «المنكر السياسي الأكبر»، فيكون احتراف «المنكر البرلماني الأصغر» هو الوسيلة والطريق نحو محاربة المنكرات الأخرى الأكبر مثل الفساد المالي والإداري، ونهب ووهب الأراضي، والبطالة وغيرها من منكرات كبرى لا تعد ولا تحصى، وذلك بدلا من أن يكون «المنكر البرلماني الأصغر» للمزاحمة والتضييق والحصر والتصفية للحسابات السياسية الأخرى مع الفرقاء والخصوم «الزملاء» من منطلق ومقود عقائدي محنط، فتظل المنكرات الكبرى المذكورة سلفا في مكانها أمام تكاتف الإرادات التمثيلية في ساحة «المنكر البرلماني الأصغر»، وقد ساخت وانغمرت هذه الإرادات حتى الأذنين في «المنكر البرلماني الأصغر» ومنكراته الأصغر منه كالــسيارات الفاخرة والجوازات الدبلوماسية وغيرها من امتيازات!
فهل لمن أراد قتال «المنكر الاجتماعي والسياسي الأكبر» انطلاقا من ساحة «المنكر البرلماني الأصغر» أن يرتوي جيدا من نعيم ورغد ورفاهية هذا «المنكر البرلماني الأصغر» حتى يقدر على مواجهة شظف وبؤس «المنكر الاجتماعي والسياسي الأكبر»!
وحتى نأخذ جانبا أكثر توضيحا ودقة من زاوية الفقه السني فإن ما ينبغي أن نشير إليه هو أن يكون هنالك تكفيريون من كل شكل ولون، كتكفيري يكفر من يكفر «الراعي» وما تتبعه من «رعية»، وتكفيري آخر يكفر من يكفر من يكفر «الراعي» وما تتبعه من «رعية» إنما هو راجع أساسا إلى محدودية اجتهادية إسلامية في مباحث «فقه المعارضة السياسية» و«فقه الاختلاف الفكري» وما يندرج تحت هذه المباحث من أمور وشئون كانت لها امتداداتها الشرعية لو لا أن حُوِرَت وجُيِرَت بعد أن حُنِطَت سياسيا، فغياب أمثال تلك الاجتهادات الفقهية النيرة ساهم في حشر الفرد ما بين نارين لا ترحمان ولا يؤمن لهما جانب، وهما نار الانصياع والخضوع والقبول بالحق المغصوب، أو نار التمرد العدمي والانفجار الانتحاري في وجه الجور، كما هي خلطت كثيرا ما بين مصالح الدين ومصالح الأمة ومصالح السياسة جميعا في فسيفساء واحدة!
فبسبب ذلك التخليط انعكست الأدوار والمقالب والقوالب، وأصبح السياسي مقدسا والديني مبتذلا، وامتنع وحرم عن الاجتهاد الفقهي الديني في مجال «المعارضة» و»الاختلاف» و»الاحتجاج» في حين ازدهرت التبريرات الفقهية الاجتهادية المتفذلكة في حقول تخدم مصلحة القوي والمتنفذ على حساب الضعيف المسكين المحرم عليه ممارسة العمل السياسي!
فكيف يكون هناك توافق وانسجام بين دعوات فقهية تدعو العبد الفقير إلى الاستسلام والانصياع والخضوع والتذلل ولو بعد اغتصاب عرض ونهب مال وأرض وعقار، في حين يوجد على الضفة الدينية - الدنيوية الأخرى حديث نبوي يهز عروش الطغيان والقرصان هو «من قتل دون ماله فهو شهيد ومن سرق من الأرض شبرا طوقه يوم القيامة من سبع أرضين»، وهو يحض ويحرض على الدفاع والذود عن حمى وحق مشروع يكون جزاؤه الشهادة؟!
فهل يتفقان ويستويان و إن امتلأت الخنادق بينهما بجثث التكفير والمكفرين والكفار؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1744 - الجمعة 15 يونيو 2007م الموافق 29 جمادى الأولى 1428هـ