في الأساطير القديمة التي اكتشفت حديثا تتحدث الملاحم عن تصورات متخيلة للجنة. فالأساطير السومرية والبابلية في بلاد الرافدين أو الفرعونية في وادي النيل تخيّلت الجنة ووصفتها بكلمات تعكس رغبة الإنسان الدفينة في البحث عن الخلود والسكينة. وأسطورة «أرض دلمون» التي تعتبر امتدادا لملحمة جلجامش الأكادية استغرقت في توصيف الجنة، فهي أرض مستقرة لا وجود فيها للأفاعي والحيوانات المفترسة، ولا مكان فيها للخوف أو الرعب. فالأرض هادئة والبلاد آمنة ومستقرة، والإنسان لا ينافس الإنسان ولا يقاتله أو يعاديه... والكل يتحدّث لغة واحدة وينطق بلسان واحد.
هذا التوصيف الأسطوري لعناصر الجنة والفضاءات الإنسانية التي تحيط بها وتخيّم عليها هو أقرب إلى أحلام تصنعها مخيّلة تطمح إلى تشكيل عالم من البشر يتكلم ويتحدّث ويفكّر ويعيش في نمط واحد لا خلاف عليه ولا تدافع ولا تنافس بشأنه. فالجنة بحسب توصيف تلك الأساطير هي عالم ساكن يسوده الاستقرار والأمن والاطمئنان. وكل ما يخالف هذا التصوّر يعتبر، بحسب تلك الأساطير، خارج تلك الرمزيات. فالجنة هي القناعة والقبول بالواقع والاندماج به وعدم الاعتراض عليه. فالشعور بالخوف يخالف طبيعة الجنة، والإحساس بالرعب لا يتجانس مع قوانينها، والدخول بالمنافسة يؤدي إلى التوتر ويولّد الخصوم والأعداء، والتحدّث بلغات مختلفة يحدث التنافر ويعطل الانسجام والوحدة.
التوصيف الأسطوري يرسم في مخيلته معالم أرض لا طمع فيها ولا مجال لوجود التنوع والتعدد. فالطمع يؤسس القلق، والتنوع يزعزع الاستقرار، والتعدد يشجع على التنافس. فمثل هذه الشرور لا وجود لها في جنة الأساطير والملاحم التي مضى على كتابة بعضها نحو 7 آلاف سنة.
حبّ الإنسان للانسجام والاستقرار والهدوء والطمأنينة والسكون وعدم التنافس والتدافع مسألة حلم تخيّلها العقل الشقي وتصوّرها في حالات وأنماط مختلفة. ومثل هذا التوصيف المثالي لعالم متخيّل أعيد تشكيله مرارا وتكرارا وانتقل مع الإنسان في تطوّره الزمني من محطة إلى محطة. فالأساطير اليونانية (الإغريقية) تضمنت الكثير من تلك الأوصاف التي أتت على ذكرها الملاحم والروايات والحكايات التي حفرت على لوحات حجرية في بلاد الرافدين وبلاد الأرز ووادي النيل وكنعان وأرض دلمون.
حتى حين دخلت اليونان مجال الفلسفة أعيد تشكيل تلك الأوصاف وتم ترتيبها وهندستها مجددا لتتجانس مع طموحات الإنسان القلق من حاضره والخائف من مستقبله والحالم بعالم جميل تسيطر عليه السعادة.
هذه الأحلام اجتهدت مخيّلة أفلاطون في ترسيم معالمها السياسية والاجتماعية في جمهوريته. فالجمهورية التي صنعها أفلاطون في عقله أعاد تركيبها مستخدما عناصر الملاحم والأساطير مادة طرية لتصوير علاقات هرمية/ طبقية تتعايش مثاليا على أرض الواقع. أفلاطون تخيّل جنة أرضية تقوم على تراتبية منسجمة في تعارضاتها وتناقضاتها ولكنها متكيّفة في قناعاتها وهندستها التي رصفت البشر ووزعتهم على درجات تبدأ من قاعدة العامّة وتنتهي في قمّة الخاصة.
حين انتشر الإسلام وعمّت فتوحاته المعمورة شرقا وغربا واستقر على قاعدة الدولة والخراج تسرّب الفكر الأسطوري إلى فلاسفته وأخذ المسلمون يبحثون عن ذاك الانسجام المفقود والطموح إلى مجتمع فاضل مستقر لا طمع فيه ولا حسد ولا مجال فيه للتقاتل والتنافس.
الفارابي مثلا دخل هذا المضمار وسجلت مخيلته تلك التصوّرات الذهنية عن عالم خاص تستقر عليه علاقات البشر في «مدينة فاضلة».
اختلفت مدينة الفارابي عن جمهورية أفلاطون في الكثير من الخصوصيات والتوصيفات والتراتب الهرمي للطبقات إلا أنها توافقت معها في قلق الإنسان وطموحه إلى العدالة وهروبه نحو السعادة.
مسألة السعادة وتعريفها وتوصيفها كتب عنها الكثير في التاريخ الإسلامي. وهناك عشرات الكتب والمقالات التي تناولت موضوع السعادة والعناصر التي تتألف منها هذه المسألة التي تؤرّق الإنسان. الإمام الغزالي مثلا كتب عن السعادة ومفاتيحها وشروطها واختلافها بين إنسان وآخر. فالسعادة هي المتعة المطلقة. والمتعة عند الإمام الغزالي هي الوصول إلى المعرفة واكتشاف الحقيقة.
في الأندلس خاض الفقهاء والعلماء والفلاسفة مضمار البحث عن السعادة وما تعنيه من سكون واستقرار واطمئنان.
ابن حزم كتب تصوّراته الذهنية عن معنى السعادة في روايته (سيرته الذاتية) التي تعتبر رائدة في مجالها. وقصة ابن حزم في «طوق الحمامة» هي مزيج بين واقع صعب وماضٍ جميل أدى إلى تركيب عالم يقع في منطقة وسطى بين العقل والمخيلة وبين الحياة والمثال. ابن طفيل دخل أيضا إلى عالم المخيلة حين قرر الهروب إلى جزيرة بعيدة عن الصراعات والمنافسات والحسد والطمع وتأسيس عالم جديد يعتمد على الطبيعة البكر. ابن باجه بدوره أعاد إنتاج مدينته المثالية بعيدا عن النزاع والنميمة والجهل والتخلّف والفساد. الفيلسوف ابن باجه يمثل ذاك الإنسان الشقي الهارب من مدينة فرضت عليه. والشقاء في نظرته التي تشكلت انطلاقا من تجربته المرّة في الحياة جاء من الوعي. فالوعي (المعرفة) يورث الإنسان المثقف الشقاء والأزمات ويولّد عنده القلق وعدم الطمأنينة. فالإنسان الواعي (المدرك) هو شقي بالضرورة عند ابن باجه.
البحث عن السعادة شكّل على مدار الأجيال ذاك الإحساس بالتناقض بين عالم يسوده التوتر ومخيلة ترسم في ذهنها مجموعة علاقات تتجاوز الواقع نحو المستقبل. ونتيجة طبيعة التناقض واصطدامه بشروط الاجتماع والعمران تشكلت في ذهن الإنسان تصوّرات جعلته يعاني من قساوة الحياة والاندفاع نحو الانعزال والغربة والانزواء وتخيل عالم جميل خارج الأرض.
الإحساس بالنقص وعدم الكمال والطموح إلى بلوغ اللذة المطلقة كلّها عناوين عامّة شجّعت العلماء والفلاسفة على التفكير بعالم آخر ومختلف عن الواقع. واستمر هذا القلق الدائم يوتر الإنسان ويشجّعه على التفكير والتخيّل وتصوير رؤاه وإعادة هيكلتها في معادلات ونظريات وتأملات وصولا إلى دخول أوروبا في عصر النهضة والتنوير.
ما عرف بالتقدم الأوروبي لم يتأسس على فراغ. وفلاسفة أوروبا في مختلف فروعهم ومدارسهم ولغاتهم عادوا إلى التاريخ لتعزيز المخيلة بالصور والألوان. فالنهضة الأوروبية نهضة «ماضوية» فهي استندت إلى تاريخها وحضارتها (اليونانية والرومانية) ودساتيرها وفلاسفتها الإغريق (أفلاطون، أرسطو، هيراقليطس، فيثاغورس وزينون) لإعادة إنتاج مستقبل لا يقطع مع السلف ولكنه لا يخضع لشروطه نظرا إلى اختلاف الزمن (مجرى الوقائع) وتطورالعلاقات (المصالح المرسلة). أوروبا الحديثة لم تقطع مع الماضي لتأسيس نهضتها وإنما تعاملت مع تاريخها بوعي متقدّم سمح لفلاسفتها بتوظيف مناراته لتنوير طرق الحرية والإخاء والمساواة.
فلاسفة الأنوار في أوروبا بحثوا عن سعادة سبق وبحث عنها الإمام الغزالي. وتخيّلوا جمهورية صنعها قبلهم عقل أفلاطون وهندسوا مدينة هيكل الفارابي قواعدها ومراتبها عشية ظهور دولة بني حمدان في حلب. وكل هذه الحلقات في السلسلة من سومر واكاد وبابل ومصر ودلمون وكنعان متخالفة وغير منسجمة ولكنها في مجموعها تطمح نحو سعادة غير موجودة بالكامل في حياة الإنسان وتتدافع نحو بلوغ حقيقة يصعب على البشر التوصل إلى محطتها النهائية. وعدم الوصول إلى نهاية المحطة أبقى عند الإنسان ذاك الاستعداد الدائم لبلوغ السعادة والبحث المستمر لمعرفة الحقيقة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1743 - الخميس 14 يونيو 2007م الموافق 28 جمادى الأولى 1428هـ