في كتابه «الهزيمة ليست قدرا»، ينقل صاحب «السفير» طلال سلمان عن الرئيس حافظ الأسد رؤيته لمواقف الأميركيين، ومن قبلهم الفرنسيين والأتراك، بقوله: «إنّهم يكرّرون الأخطاء القاتلة نفسها؛ لأنهم يتساوون في جهلهم بالتاريخ».
المقال نُشر في 17 أغسطس/آب 1993، وفيه بعض الأفكار الجدلية التي تستحق من العقلاء التبصّر في عاقبة الأمور. من بينها أنّ «الطائفية تغدو مُعطلا للديمقراطية بقدر ما هي تضرب العدالة الاجتماعية». وهو درسٌ لا تريد الجمعيات السياسية (الست) أنْ تستوعبه، بدليل بيانها العصبوي، الذي قرأناه أمس، بما فيه من جفاءٍ وطني، وبُعدٍ عن مصلحة الوطن العليا.
الأسد -بحسب سلمان- يرى أنّ العمل السياسي ليس «وظيفة» ولا «وجاهة» أو «مهنة» منفصلة عن وظيفتها الاجتماعية... فالإقطاعي يمثل ويحمي مصالح الإقطاعيين، بغضّ النظر عن ادعاءاته، والرأسمالي يهمّه مضاعفة أرباحه ولو بإفقار الناس أكثر، بغضّ النظر عن صدقاته التي يحاول بها التستر على جشعه، والفقراء لا يُدافع عنهم إلاّ الفقراء والمتجرّدون عن المنافع والمطامع الشخصية.
في تحليله للوضع، يخلص الأسد إلى اعتبار النظام السياسي اللبناني أحد أسباب الحرب الأهلية. فهناك أغلبية ساحقة من البؤساء والمحرومين، إلى جانب أقليةٍ تتمتع بوضعٍ ممتاز، لكنهم لغبائهم (بحسب تعبيره) لم يسمعوا لكلام موسى الصدر لضرورة الإصلاح السياسي بالإنصاف الاجتماعي ورفع الغبن.
ويستطرد الأسد في حديثه عن الصدر قائلا: «كنتُ أقدّر الإمام الصدر وألتقيه كلّما تيسّر لي الوقت، وكنتُ أفترض أنّ المسئولين سيصغون إليه، خصوصا أنّه لم يكن يُؤمن بحمل السلاح ولم يكن يدعو لثورة مسلّحة، وإنّما كان يُنادي بالنضال السلمي من أجل التغيير بغير عنف، لذلك اختار التوعية بالمحاضرة والمناقشة والندوة والكتابة ورفع الصوت، محاولا الإفادة من الهامش الديمقراطي وتعبئة الجمهور للمطالبة بحقه في أنْ يختار ممثليه المعبّرين عن مطامحه، لكن (الوضع) كان متحّجرا ومُغلقا أمام التغيير». ولكن... متى سمع العالم للمصلحين الكبار؟!
روسو لم يسمعوه إلاّ بعد قرنٍ ونصف، ولنكولن لم يسمعوا له إلاّ بعد قرن، ومارتن لوثر كنغ وغاندي لم يسمعوا لهما إلاّ بعد نصف قرن... وهكذا تكرّ المسبحة وتعمّ المظالم وتتقصّف أعمار الشعوب.
الأسد كان ينظر إلى الطائفية باعتبارها «تعطّل العملية الديمقراطية، فمن نادى بتطوير النظام وُجّهت إليه تهمٌ قاسية تمتد بين التأثر بالأفكار الهدّامة وإثارة النعرات الطائفية»! والأبشع -كما يقول- إن أهل الحكم في لبنان صوّروا الأمر وكأنّ احتكارهم للسلطة هو امتيازٌ لطائفتهم وليس لأشخاصهم، مع أنّ الأكثرية من كلّ الطوائف، هم من الفقراء والعمّال والفلاحين وصغار الكسبة. وينتهي الأسد إلى القول: «لكأنما تحصّن الإقطاع السياسي المُتحالف مع رأس المال بالطائفية، فبات المعترض عدوا للمسيحيين جميعا، في حين العدالة الاجتماعية مطلب الفقراء جميعا، لأيّ دين انتموا، وليست دعوة فئوية».
نعم... أية عدالةٍ ترجوها؟ وأيّ إصلاح؟ جمعيات موالاة ترتكب الأخطاء القاتلة نفسها، تحالفاتها قائمة على استثمار سياسات التمييز؛ وأقلام مُراهقة تمعن أكثر وأكثر في صبغ الخلافات السياسية بالطابع الطائفي، أكثرها «نضجا» و»عقلا» منْ ترمي بكلّ أمراض الوطن على مُعارضي أنظمة التمييز والامتيارات. فإنْ فرغت جعبتها لجأتْ إلى اللف والدوران والمزاح الثقيل. إذا استقتلتم دفاعا عن التمييز الذي لا يرضى به دين ولا ضمير ولا دستور، فهل ستقبلون فضح أنظمة المال والكارتلات؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2260 - الأربعاء 12 نوفمبر 2008م الموافق 13 ذي القعدة 1429هـ