العدد 1742 - الأربعاء 13 يونيو 2007م الموافق 27 جمادى الأولى 1428هـ

دخان من دون نار

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

التخاطب السوري - الإسرائيلي عبر الأثير ومن خلال ما يقال ويشاع عن تبادل وجهات نظر ونقل رسائل واتصالات سرية بواسطة أطراف ثالثة وقنوات دبلوماسية ومخابراتية بدأ يطرح أسئلة جدية بشأن هذه الإلغاز التي تثير تكهنات وترفع من نسبة التأويلات والشبهات. فهل هناك فعلا اتصالات سورية - إسرائيلية أم لا أساس لمثل هذه الشائعات المختلقة؟

المثل يقول «لا دخان من دون نار». ومن غير المعقول أن يرتفع دخان اللقاءات السورية - الإسرائيلية، التي أكدها أكثر من طرف وتم نفيها من أكثر من مصدر، من دون أن يكون لهذا الدخان (الأبيض حتى الآن) ما يعززه. فالدخان لا يصعد ويرتفع في سماء المنطقة وتشاهده الكثير من العواصم القريبة والبعيدة هكذا ومن دون أسباب ومسببات. لابد إذا من وجود فعل لردة الفعل إلا إذا كانت هناك مصلحة لطرف ما (مجهول الهوية والحسب والنسب) بإثارة مثل هذه القنابل الدخانية لتشتيت التركيز الذهني وحرف الأنظار عن حقيقة ما يجري.

الكلام عن الاتصالات الإقليمية الثنائية تكرر في الشهور الأخيرة وجاء تأكيده من أكثر من مصدر. فهناك من قال إنه نقل وجهات نظر شفهية، وهناك من ذكر أنه حمل رسائل في هذا الشأن، وهناك من أشار إلى انطباعات واستنتاجات، وهناك من وضع نفسه في موقع الوسيط المحايد أو كلف نفسه بمهمة تجسير علاقات لحسابات ومصالح شخصية وتجارية، وهناك غيرها من أقاويل الآحاد والتواتر. وكل هذا الكم تم التعامل معه بسخرية أو نفي أو تراجع أو التباس أو عدم دقة في نقل المشاعر والانطباعات.

ما الحقيقة إذا في هذه المسألة؟ ربما تكون هناك مبالغات في سرد وقائع جلسات تحصل بين أطراف ثالثة في دمشق وتل أبيب. وربما تكون هناك انطباعات شخصية أو سوء فهم أو عدم دقة في ترجمة الكلمات من العربية إلى العبرية والعكس أدت إلى حصول التباسات أوقعت عشرات الوسطاء في تفسيرات لم تكن دقيقة وليست في محلها.

المسألة إذا مبهمة ولعل هناك رغبة ثنائية في تركها معلقة وغير واضحة في معالمها وثناياها. وهذه الحال الضبابية تشبه كثيرا ذاك الدخان الذي يقال علميا أنه لا يصدر أو ينتشر في السماء أو الغابات من دون سبب أو مسبب. ولكن ما يصح في العلم لا يصح في السياسة دائما خصوصا في منطقة وصفت فيها السياسة بأنها بعيدة عن العلوم المتعارف عليها دوليا. فالسياسة عموما تقوم على «ازدواجية المعايير» وفي منطقتنا تصبح قريبة من التآمر والاحتيال والمناورة. وبين العلم الواضح والسياسة المبهمة والمزدوجة في معاييرها هناك مسافة للوقائع التي يمكن الاستناد إليها لترسيم حدود هذا التخاطب السوري - الإسرائيلي.

بدأ الكلام عن اتصالات أو استعداد للتفاوض والسلام في اليوم التالي على العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان الذي توقف في 14 أغسطس/ آب الماضي. والكلام جاء على خلفية العدوان نفسه ومجرياته وتداعياته. فخلال فترة العدوان الذي دام نحو 34 يوما ظهرت هشاشة مقولة «وحدة المسارين» وأظهرت عدم رغبة في توسيعها من الطرفين السوري والإسرائيلي. إلى ذلك حصلت مفاجأة إيرانية في هذا السياق حين تراجعت طهران أو تجاهلت مقولة «مسح إسرائيل من الخريطة».

تَعطُّل «ماسحات» إيران عن العمل في لحظة العدوان المعطوف على هشاشة «وحدة المسارين» كشف لبنان وأظهره في موقع الشاة التي يمكن التضحية بها بمناسبة أو من دون مناسبة. هذه المفاجأة أعادت توضيح صورة مبهمة عن احتمال وجود مسار آخر غير «المسارين» يمكن التعامل معه من موقع التفاوض لا الحرب. وهذا الأمر أخذ يتبلور في اليوم التالي لوقف العدوان حين أطلق الرئيس بشار الأسد إشارات بهذا الاتجاه.

تلك الإشارات الموجزة والسريعة لم يلتقط ذبذباتها السياسية سوى وزير الدفاع عمير بيرتس فدعا حكومته إلى استغلال الظرف المناسب والتعامل بإيجابية مع المبادرة السورية. ويبدو أن حكومة إيهود أولمرت كانت في مزاج عكر فتأخرت في فهم ألغاز الخطاب أو أنها تعرضت لضغوط مباشرة من واشنطن في اعتبار أن سورية جزء من منطقة «الشرق الأوسط» وبالتالي لابد من التفكير لدراسة الموضوع من كل جوانبه.

حاوي الإسرار

بعد ذلك أخرجت الكثير من «الأوراق السرية» من الحاوي ووضعت على الطاولة. وبدأت أقاويل متواترة تشير إلى وجود قنوات سرية تعمل من دون انقطاع أطلق عليها أحيانا «القناة السويسرية» وأحيانا أخرى قناة رجل الأعمال الأميركي السوري الأصل إبراهيم سليمان. وكل هذه الأوراق تم نفيها أو التقليل من أهميتها الرسمية ووصف بعضها أنه مجرد مبادرات شخصية لا قيمة لها في السياسة.

بين النفي والتأكيد أخذت تطلق تصريحات من وسطاء ووفود وزوار من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تشير إلى وجود رغبة بالتفاوض وفتح الملفات والعودة إلى طاولة الحوار التي تزعزعت بعد العام 2000. وانعطفت تلك التصريحات على زيارات سريعة وقصيرة قام بها شمعون بيريز إلى قطر وترافقت مع اتصالات سورية مباشرة وغير مباشرة مع الدوحة.

حتى هذه الفترة لم تصدر تعليقات واضحة بهذا الشأن من تل أبيب. فحكومة أولمرت اتبعت سياسات الغمز واللمز والغموض والنفي والتأكيد ثم التأكيد والنفي. واستمر أولمرت يناور ويلعب على الكلام ويطرح أسئلة تشكك بنوايا دمشق إلى أن أطلق حديثا مجموعة تصريحات تلمح إلى استعداد تل أبيب للتفاوض بشروط. وألحق أولمرت تصريحاته بإشارات توضح استعداد حكومته للتنازل عن الجولان مقابل فك دمشق تحالفاتها مع إيران وحزب الله وحماس.

كلام أولمرت جاء متأخرا قرابة عشرة أشهر عن انتباه عمير بيرتس الذي طالب حكومته بالإسراع في التقاط إشارات الاستعداد السوري للتفاوض. وهذه المسافة الزمنية بين وزير الدفاع الإسرائيلي الذي سيغادر منصبه قريبا وبين رئيس حكومته المرتبط بخط مباشر مع واشنطن يمكن قراءة تعرجاتها من خلال مراقبة السلوك الأميركي العام دوليا وفي المنطقة. فانتباه أولمرت المتأخر يمكن ربطه باحتمال صدور إشارة خضراء من إدارة جورج بوش بهدف الاختبار وجس النبض.

المتغير الإسرائيلي ربما يؤشر إلى وجود متغير أميركي مدعوم هذه المرة من فرنسا ساركوزي وذلك باتجاه فتح قنوات دبلوماسية مع دمشق تعيد تخطيط صورة مشروع مشترك يرتب علاقات إقليمية ليست بعيدة عن ساحات غزة والعراق ولبنان. وهذا الاحتمال يمكن تدعيمه بتلك «الأخبار الجيدة» و «الاتصالات العملية» و «الاجتماعات العملانية» التي عقدت بين الطرفين الأميركي والسوري في شرم الشيخ والأميركي والإيراني في بغداد.

حتى الآن تنفي دمشق تلك الأخبار المتواترة كذلك تقلل تل أبيب من أهميتها. ولكن الطرفين أظهرا استعدادهما لاستئناف التفاوض مع فارق أن تل أبيب تريد بدء المفاوضات بشروط بينما دمشق تريدها من دون شروط.

إذا «لا دخان من دون نار». والنار الحامية جدا تندلع من دون دخان كثيف، بينما تلك التي تكون في بداية الاشتعال يكون دخانها أقوى من نارها. وحتى الآن كثافة الدخان هي الغالبة على خطابات التخاطب السوري - الإسرائيلي. وهذا لا يمنع من تأكيد وجود اتصالات عبر وسطاء وقنوات ثالثة.

الأمر المذكور ليس جديدا وتكرر مرارا في السر والعلن وفي مناسبات بدأت منذ وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. وهناك اتفاقات وتفاهمات صيغت أو وقعت بهذا الشأن وربما جددت وطورت في سياقات مختلفة بدءا من التغطية الدولية/ الإقليمية لدخول القوات السورية إلى لبنان في العام 1976 وصولا إلى خروجها بناء على القرار الدولي 1559 في ربيع العام 2005.

الاتصالات الثنائية ليست سرا وهي لم تعد كذلك منذ عقود. المشكلة ليست في التأكيد والنفي وإنما في البرنامج والغايات والأهداف وربما احتمال عقد صفقات وتقديم أضحية في أجواء إقليمية تشهد موجة من الدخان الكثيف.

هذا الضباب الدخاني يمكن ربطه أو العودة به إلى عدوان الصيف الماضي على لبنان وظهرت خلاله ميدانيا هشاشة «وحدة المسارين» وتعطل «الماسحات الإيرانية». فالعدوان أميركي الصنع وإسرائيلي التنفيذ وهو استهدف مجموعة غايات منها كسر شوكة المقاومة وإبعادها من الحدود الدولية إلى الداخل اللبناني، وتحطيم البنى التحتية للدولة وإغراقها في مشكلات مضافة تبدأ بإعادة بناء ما دمرته الحرب وتنتهي باستنزاف طاقاتها على ضفاف «نهر البارد» وأخيرا تفكيك المشروع العربي في لبنان الذي تبلورت خطوطه العريضة في اتفاق الطائف.

سياسة التدمير الأميركية - الإسرائيلية وزعزعة استقرار لبنان ودفع قواه السياسية إلى ساحة «الفوضى الهدامة» كانت إشارة واضحة للبدء في التفاوض على المقلب الآخر من الحدود، وخصوصا أن الطرف الآخر أبدى استعداده للتعامل بإيجابية في هذا الموضوع. فدمشق كما يبدو من موازين القوى المعروفة والمتداولة غير قادرة على تحرير الجولان وأيضا غير مستعدة للتخلي عن حق ضمنته قرارات دولية. وتل أبيب مرتاحة ومتخوفة من هذا الوضع القلق الذي يقف على حد فاصل بين اللاحرب واللاسلم. وبسبب هذا الفضاء المأزوم لا يستبعد أن تحصل مفاوضات ثنائية ما دامت المعادلة لم تحسم باتجاه السلام أو الحرب. ومن يقرأ التحليلات الإسرائيلية بهذا الشأن يلحظ ذاك الارتباك في تقدير قوة دمشق العسكرية بين رأي يقلل من قدراتها ورأي يبالغ في إمكاناتها.

التذبذب المشار إليه في الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية يفسر إلى حد كبير ذاك التذبذب الذي يطلق إشاعات وأقاويل مسندة إلى أخبار الآحاد والتواتر عن تأكيد اتصالات ورسائل وقنوات في يوم ثم نفيها في اليوم التالي. وبين التأكيد والنفي يمكن أن تلتقط بسرعة تلك الإشارات التي ترسلها معادلة مقلوبة علميا ومفهومة سياسيا في «الشرق الأوسط» وهي أنه بالإمكان انتشار «دخان من دون نار».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1742 - الأربعاء 13 يونيو 2007م الموافق 27 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً