يشرح نوح فيلدمان، أحد الخبراء فيما يشير إليه هو بالديمقراطية الإسلامية في كتابه «بعد الجهاد: أميركا والجهاد من أجل الديمقراطية» كيف ركّز النموذج الغربي على نموذجين متضادين للحكم، يعود كل منهما بجذوره إلى المدينتين القديمتين، القدس، مكان ميلاد المسيحية وأثينا موقع ميلاد الفلسفة.
تمثل القدس بشكل عام نموذجا يسيطر فيه الدين ولا يوجد فيه فصل بين الكنيسة والدولة، ويميزه حكم شبه مطلق من قبل إمبراطور هو كذلك رأس الكنيسة. أما أثينا فتمثل المنطق حيث الدين «مخصخص» بشكل صارم، وحيث يسيطر إله العلم، وحيث للمواطنين قول مباشر فيمن يحكمهم.
ويتميز التاريخ الغربي بتوتر دينامي بين هاتين المدينتين. وهذا يؤدي إلى الاعتقاد بأنه إذا لم يناسب منظور مجتمع ما للحكم المثالي بشكل جيد النموذج العلماني لأثينا فهو بالضرورة يتبع نموذج القدس. في هذا النموذج الثنائي ينعدم الخيار الثالث.
إلا أن فيلدمان يؤكد أن جذور التاريخ الإسلامي السياسي تنبع من مدينة أخرى مختلفة تماما هي المدينة المنورة، مصدر التقاليد الإسلامية الروحانية والديمقراطية.
يُظهر استطلاع أجراه حديثا مركز غالوب أنه على رغم وجود تنوع كبير بين الشعوب الإسلامية، فإن بعض الموضوعات الملحوظة تبرز في وجه الحكمة التقليدية. إحدى هذه النتائج الدعم المسلم الواسع للشريعة التي تمثل مبادئ الدين الإسلامي، والتي يُنظر إليها بشكل واسع على أنها تحكم جميع نواحي الحياة، من اليومية السهلة إلى المعقدة.
ويتمتع دمج الشريعة، التي يفترضها الغرب ضربا من ضروب قوانين القمع التي لا يدعمها سوى قلّة من المتشددين (وتكرهها النساء بشكل خاص) كأحد مصادر التشريع، بدعم الغالبية في الدول الثماني ذات الغالبية المسلمة التي تم استطلاعها. وقد يكون ما يثير الدهشة أكثر هو الغياب العام لأي اختلاف واسع النطاق بين الرجال والنساء فيما يتعلق بدعمهم لدمج الشريعة في الحكم. الدولة الوحيدة الخارجة عن هذا الإجماع هي تركيا حيث يعتقد 57 في المئة من المستَطلعين فيها بأنه يتوجب ألا تكون الشريعة أحد مصادر التشريع.
ولكن كيف يَفهم غالبية المسلمين الشريعة؟ هل يعني دمجها رفض القيم الديمقراطية ونداء لحكم مطلق من قبل رجال دين لا يخطئون؟
تقترح نتائج الاستطلاع أن هذا ليس هو الحال. غالبية الذين جرى استطلاعهم، إضافة لإعجابهم بالحرية السياسية في الغرب، ذكروا كذلك أنهم يدعمون حرية التعبير وممارسة الشعائر الدينية والتجمع، إضافة إلى حق المرأة في التصويت وقيادة المركبات والعمل خارج المنزل. بالتأكيد، يعتقد غالبية المستَطلعين في الدول التي تم استطلاعها باستثناء المملكة العربية السعودية (إذ بلغت النسبة 40 في المئة) أنه من المناسب للمرأة أن تعمل في أعلى مستويات الحكم في وزارات بلدها ومجالسها الوطنيّة. إضافة إلى ذلك، يقول ما معدّله 60 في المئة إنهم لا يريدون أن يلعب الزعماء الدينيون أي دور مباشر في صياغة دستور الدولة (وحتى هؤلاء الذين يؤمنون عكس ذلك، فإن معظمهم يريدون أن يقتصر دور رجال الدين على المجال الاستشاري).
هل يجب على الغرب أن يندهش من هذه الإجابات؟ يشرح ريتشارد بولييه في كتابه «طرح في صالح الحضارة الإسلامية المسيحية» أن الشريعة عملت تقليديا على وضع حدود لسلطة الحكومة. ويكتب بولييه قائلا: «لم يردع الحكام عن التصرف كطغاة سوى الشريعة الإسلامية. وبما أن القانون كان يرتكز على مبادئ إلهية وليس على مبادئ إنسانية لم يتمكن أي حاكم من تغيير هذه القوانين لمصلحته الذاتية».
وباستخدام لغة مألوفة أكثر، تمثل الشريعة في المفهوم المسلم تلك الحقوق التي لا يمكن استبعادها التي خلعها الخالق عز وجل على خلقه. يتمثل دور الحكومة إذا في حماية هذه الحقوق. وهكذا يمكن أن تعني العلمانية الكاملة بالنسبة إلى الكثيرين رفع القيود كافة عن استبداد الحكم، بل سلب الحقوق التي وهبها الله تعالى للناس.
قد يُذهل كون الغالبية الساحقة من المسلمين يدعمون توجها يرفض استثناء الله تعالى من مجال الحكم على رغم أنهم يعتنقون القيم الديمقراطية، الكثير من الناس الذين لا يفهمون سوى الديمقراطية العلمانية من النوع الفرنسي.
إلا أن ما يدعو إلى الدهشة هو عدد الأميركيين الذين قد يعتنقون فعليا نموذجا مماثلا. في استطلاع أجرته مؤسسة غالوب حديثا للأسر الأميركية يقول 46 في المئة إنه يجب أن يكون الإنجيل المقدس هو مصدر، وليس المصدر الوحيد للتشريع. ويقول 9 في المئة آخرون أنه يجب أن يكون الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد للتشريع.
إلا أن غالبية الأميركيين، مثلهم مثل المسلمين، لا يفضلون تسليم السلطة للقادة الدينيين. ومن المثير للانتباه أن وجهات النظر الأميركية بشأن دور القادة الدينيين موازية بشكل مماثل تقريبا لتلك في إيران، إذ يقول 55 في المئة من الأميركيين والإيرانيين إنه يجب ألا يكون للزعماء الدينيين دور في صوغ الدستور لدولة جديدة، بينما يعتقدون أنه يجب أن يكون لهم (أي لرجال الدين) دور ولو جزئي.
قد يكون فهم هذا النموذج الثالث للحكم، الذي يعتنق كلا من المبادئ الدينية والقيم الديمقراطية، هو المفتاح الذي تملكه أميركا للمساعدة على بناء ديمقراطية أصلية حقيقية تتمتع بمساندة شعبية في هذا الجزء من العالم.
*تدير مركز غالوب للدراسات الإسلامية وهي مؤلفة مشاركة مع جون اسبوزيتو لكتاب يصدر قريبا عنوانه «من يتكلم باسم الإسلام؟ الإنصات لمليار مسلم»، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1742 - الأربعاء 13 يونيو 2007م الموافق 27 جمادى الأولى 1428هـ