فيلم «اوشن 13» الذي يعرض حاليا في سينما السيف يستحق المشاهدة نظرا إلى ذاك التداخل الذكي الذي يولف الشريط السينمائي بين الخدعة والاحتيال والذكاء الظريف والتآمر في مواجهة الطمع والجشع وحب التسلط والاستيلاء وقهر الناس واستلاب حقوقهم وأموالهم.
الفيلم ظريف ويتوسل النكة للسخرية من الأشرار وعالمهم المتخم بحب الظهور والكيد وقطع الطريق على أرزاق الناس. هذه الفكرة الجادة تعمد مخرج «اوشن 13» تقديمها في إطار فكاهي ساخر وبأسلوب مقبول يصل إلى جمهور المشاهدين بسرعة من دون مواعظ وخطب بلاغية.
الشريط السينمائي هو حلقة في سلسلة. وكل حلقة تتحدث عن موضوع مستقل، ولكنه متواصل ويرتبط قريبا وبعيدا بعناصر الحلقة التي سبقته. كذلك تعمد المخرج الاستعانة بأهم الممثلين وأشهرهم للعب ادوار بسيطة وسريعة، ولكنها هادفة في غاياتها الأخيرة. ولتحقيق هذه الغاية النبيلة اتخذ مخرج الفيلم من مدينة لاس فيغاس مسرحا للنشاط. فالمدينة عرفا هي أرض حرام، إذ إنها تحتوي على أضخم صالات قمار في العالم. وهي أصلا تأسست قبل مئة سنة لهذه الغاية. فالمدينة غير صالحة للسكن سوى للعصابات والمافيات ومجموعات التهريب وتنظيف الأموال. والقمار وسيلة من وسائل تحويل النقد من سوق الحرام والنهب والتهريب إلى فنادق ضخمة وفخمة تضم الكازينوهات والملاهي وأمكنة التسلية المفتوحة على كل الحدود.
اختيار المخرج هذه المدينة الموبوءة بأندية القمار مسرحا للعمليات تعتبر ضربة معلم لأنه أراد كشف الجانب الآخر من هذا الوجه «الجميل» الذي يظهر أمام الناس في مناظر ساحرة تبهر العقل والنظر بتلك الاضواء الليلية.
إلى المكان اختار المخرج شخصية نموذجية عن ذاك العالم الخفي أطلق عليه اسم «بنك». واختيار اسم بنك (مصرف) له دلالة للإشارة إلى ذاك الرابط بين عالم المال وعالم القمار وقنوات التسريب بينهما التي تسهم في تنظيف المال وتحويله من بضاعة محرمة إلى نقد شرعي يتداول بالطرق المشروعة.
المدعو بنك (آل باتشينو) في منتهى الذكاء وهو لا يتردد في استخدام عقله وسلطته واتصالاته للنهب والسرقة وتنظيف الأموال بالتعاون مع قوى يتعامل معها ويعتمد عليها لتسهيل مهماته القذرة. إضافة إلى ذلك يتميز «بنك» بالجشع والنهم والتسلط والغدر بأقرب الأصدقاء بسبب طمعه الذي لا حدود له. فهذه الشخصية مستعدة للتفريط في كل شيء من أجل بسط هيمنتها ومنع المشاركة أو حتى المنافسة. وبسبب هذه النزعة التسلطية المشفوعة بالطموح الزائد والعمل الدؤوب والسهر المتواصل أعطت «بنك» قدرات استثنائية جعلته يتحكم بالسوق ويطرد المنافسين ويحصد الجوائز وينال الشهرة الإعلامية والاحترام نظرا إلى نجاحاته المتواصلة.
مقابل «بنك» هناك شخصية مضادة أطلق عليها المخرج اسم «اوشن». واوشن هو ذاك المحيط من الناس المتضرر من جشع «بنك» واستغراقه في عمل يوفر له كل الثروات ويعطيه قوة للاضطهاد وكسر خصومه.
اوشن شخصية فكاهية وذكية وأيضا «لص ظريف». والصراع الذي يقع بين اوشن وبنك ليس بين شريف ولص وإنما بين لص محبب لا يؤذي وآخر شرير يريد الكسب ويمنع عن غيره وحتى اقرب الناس إليه الاستفادة من هذا الكم من المال الذي يدور كما تدور الطابة على دولاب الروليت.
صراع الشر ضد الشر
فكرة الفيلم ذكية وهي جديدة نوعا ما. فهي لا تتحدث عن صراع الخير مع الشر وإنما اختلاف الشر مع الشر. فالشر برأي المخرج درجات وعالمه متراتب بين سيئ وأسوأ. واختيار السيناريو مجموعة شريرة وغير مؤذية لمواجهة شرير طغى عليه الطمع وحب السيطرة والتسلط أعطى صورة متناقضة عن عالم الشر والحرام. فهذا العالم يحتاج إلى مادة من صنعه لتقويضه من الداخل ويتطلب استخدام الأساليب نفسها من حيل وخداع وأكاذيب وتآمر واختراقات وتفخيخ لتكسيره وإيقاعه في مصائب تشبه تلك التي يستخدمها «بنك» لإيقاع الأذى بأصحابه.
هذه الاستدارة في التعامل مع عالم الشر وتفكيكه من الداخل باستخدام وسائل غير مشروعة وغير أخلاقية تعتبر ميزة فيلم «اوشن 13». فالطمع حتى في عالم الأشرار لا يجوز وهو يولد نزاعات داخلية ويثير الأحقاد ويؤسس استقطابات تقوم على التنافر والكراهية. وهذا ما حصل للمدعو «بنك» في مناسبة تدشينه لفندق جديد يضم أوسع وأرقى وآخر موديلات صالات القمار.
الفندق قام على الرشوة واخذ شرعيته من خلال استخدام الوسائط غير القانونية التي اعتمدت على مراكز قوى سهلت تأسيسه على رخصة مزورة ساهم في تشريعها صديق «بنك». إلا أن الجشع تغلب في اللحظة الأخيرة حين انقلب «بنك» على صديقه وطرده من المشروع بعد أن ضمن مشروعيته. وهكذا يبدأ الصراع بين صديقين لدودين. فالأول أكل المشروع وبلع حصة الثاني. والثاني وقع أرضا بسبب عنصر المفاجأة، ولكنه قرر الانتقام مهما كلف الأمر.
وعلى هذا الأساس يبدأ الصراع. فالمدعو بنك عنده الكثير من الخصوم الأثرياء. وهؤلاء تضامنوا وصمموا على الإيقاع به لحظة تدشين مشروع الفندق/ الكازينو الجديد من خلال الاستعانة بعصابة تحترف أساليب الاختراق والتزوير والتفخيخ وكل الوسائل غير المشروعة، ولكنها قادرة على تفليس «بنك».
سيناريو الشريط السينمائي يركز على هذا المقطع المثير. فالعصابة الظريفة الممولة والمدعومة من الأثرياء المتضررين من احتكار «بنك» وتسلطه تأخذ بوضع خطط التآمر بهدف تفخيخ آلات القمار وأدواتها بحيث تؤدي إلى ربح الزبائن لا خسارتهم. كل ما فعلته العصابة أنها تلاعبت بالآلات وجعلتها تقوم بوظيفة معاكسة. فالآلات مبرمجة لتشليح الناس أموالهم، ولكن العصابة قلبت الوظيفة وحولت الآلات إلى وسيلة للربح بقصد تفليس «بنك» في اليوم الأول لافتتاح مشروعه الجديد.
وهذا ما حصل حين أخذت الآلات تغدق الأموال على الزبائن إلى درجة أن حصيلة اليوم الأول من الافتتاح كانت خسارة نصف مليار دولار وهو مبلغ كاف للانتقام من شخصية نموذجية في طموحها اللامحدود وطمعها الذي لا يقف في مكان.
كل السيناريو مصنوع بأسلوب مركب يولف بين صراع الشر ضد الشر وتضاد الأشرار في عالم غامض تحيط به الالغاز والاسرار ولا يعرفه سوى أولئك الذين يعيشون به ويعرفون قوانينه ويستطيعون التحكم بأدواته وقواعد لعبته. وهذه الفكرة التي استند عليها المخرج أعيد إنتاجها للمشاهد بأسلوب ساخر وشيق يعطي فكرة موجزة عن عالم مجهول وتحذر الناس من الدخول إلى مخاطر لعبة القمار المبرمجة سلفا والمصنوعة أصلا للإيقاع بالزبائن وتفليسهم.
العدد 1742 - الأربعاء 13 يونيو 2007م الموافق 27 جمادى الأولى 1428هـ