«لن أنجز هذا الكتاب إلا بعد أن أتقاعد». هذا ما قاله المفكر الراحل عفيف فراج لزوجته عايدة قبل أكثر من سنتين. ولكن القدر كان أقوى. فراج رحل قبل أن يصل إلى سن التقاعد.
مادة الكتاب الأولية اشتغل عليها فراج ونظمها وبوّبها ولكنه قرر العمل عليها بعد حين بسبب انشغاله بمهنة التدريس. فهو أستاذ الحضارات في الجامعة اللبنانية فضلا عن شهادة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي.
بعد غيابه أخذت زوجته تعمل على نشر ما تركه من أوراق. فأصدرت له في السنة الأولى من رحيله كتاب «إشكالية النهضة بين الليبرالية الاغترابية والإسلامية الاجتهادية» (دار الآداب، سنة 2006). ثم جمعت أوراقه التي تركها لسن التقاعد في كتاب «الجذور الشرقية للثقافة اليونانية» الذي صدر حديثا عن دار الآداب في بيروت في الذكرى الثانية لرحيله.
الكتاب ثري في غزارة مراجعه والزوجة تقول انه كان سيضيف الكثير من المعلومات وخصوصا بين الفصلين السادس والسابع «ليصبح أكثر ترابطا». وتضيف «لو قدر لعفيف أن ينهي كتابه لكان صدر في حلة مغايرة وتحت عنوان ربما مختلف، ولكانت المراجع والهوامش أكثر دقة مما هي عليه».
رحيل عفيف فراج خسارة للفكر العربي. والكثير من الجيل الحالي لم يعرفه وربما لم يسمع به. ولكن ما تركه للمكتبة العربية يمكن تقويمه من الأعمال الجيدة والجديرة بالاحترام. فهذا المفكر باحث ودارس ودقيق في معلوماته ومتابع للحقل الذي أحب أن يتخصص فيه.
جيل السبعينات والثمانينات يعرف فراج وقرأ الكثير من أعماله السابقة. ففي العام 1970 صدر له عن دار الطليعة كتاب «دراسات يسارية في الفكر اليميني»، ثم كتاب «الحرية في أدب المرأة» عن مؤسسة الأبحاث العربية في العام 1975. وحين اغتيل كمال جنبلاط في العام 1977 كتب عن مثاليته الواقعية في كتاب كان له وقعه آنذاك. بعدها انقطع فراج عن إصدار الكتب. لبنان في تلك الفترة شهدت ساحته سلسلة حروب أهلية وإقليمية جرفت عمرانه وقتلت خيرة شبابه من بينهم ابن عفيف البكر. وكل هذا الكم من الكوارث كان كافيا لوقف الإنتاج والإبداع لدى الكثير من المفكرين اللبنانيين.
توقف فراج عن إصدار الكتب نحو ربع قرن من الزمن ليعود بعدها إلى العمل الدؤوب والنشاط الذهني بزخم قوي أعاد ذكريات الأيام الخوالي. ومنذ العام 2000 استرد عفيف حيويته وأخذ بنشر الأبحاث والدراسات والمقالات المميزة في مصادرها وفي استهدافاتها. فصدر كتابه الأول في العام 2002 عن دار الآداب بعد ربع قرن من الانقطاع تحت عنوان «اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية»، ثم صدر له في العام 2003 عن دار الآداب أيضا كتابه «رؤية آينشتين لليهودية ودولة اليهود». بعدها رحل فجأة عن الدنيا تاركا لزوجته أوراقه.
كتابات فراج الأخيرة (أربعة كتب) تختلف نسبيا عن نتاجاته الأولى. فمن الواضح أنه استفاد من علومه ودراساته واطلاعاته واختصاصه في الآداب وتاريخ الحضارات ليؤسس رؤية جديدة في قراءة تطور الحضارات وموقع العرب والمسلمين والشرق عموما في رفد الغرب بالكثير من ثقافته. ولو تسنى لعفيف مواصلة هذا الطريق لقدر له أن يعيد تشكيل الكثير من الرؤى بهذا الشأن.
في الكتاب «الذي لم ينجزه» يبدو فيه عفيف أنه أخذ يشتغل على الأساطير المشرقية القديمة محاولا تفكيكها وتحليلها مستخدما مناهج معاصرة كالهيغلية والماركسية والفرويدية لاستنباط بعض المفاهيم ومقارنتها بالفكر اليوناني (الإغريقي) توصلا إلى تأكيد مقولة إن أوروبا ليست مركز العالم وليست المسرح الوحيد للحضارة. حتى يؤكد هذه الفكرة عاد فراج إلى الأساطير السومرية والبابلية والكنعانية وقارنها بالإلياذة اليونانية التي جاءت في فترة لاحقة ومتأخرة فوجد أن الكثير من الشخصيات متشابهة أو على الأقل متقاربة في رمزيتها.
الشرق هو الأصل وهو الأساس والجذر ومنه انتقلت الروايات والحكايات والأفكار والفلسفة والعلوم إلى الغرب. هذه الفكرة ليست جديدة فقد وردت في الكثير من البحوث والمدارس الفلسفية وأشار إليها مؤرخون وفلاسفة وعلماء اجتماع. المؤرخ وول ديورانت ذكرها في كتابه «قصة الحضارة» حين قال: «إن قصتنا الحضارية تبدأ بالشرق». وفريديرك هيغل أكدها في كتابه عن «فلسفة التاريخ» حين قرأ تطور الحضارة وانتقالها من مهدها الطفولي (الشرق) إلى الشيخوخة (الغرب). والأمر نفسه أشار إليه المؤرخ اليوناني يانس كورداتوس (توفي 1961) حين ربط بين جلجامش السومرية والأوديسا اليونانية. كذلك أقدم الباحث مارتن برنال في كتابه الذي أثار ضجة عندما صدر في العام 1987 وبيّن فيه أن الثقافة اليونانية مستمدة من الشرق. فهذا الكتاب (أثينا السوداء) أسس قواعدَ تفكيرٍ منهجية اعتمدت على ملاحظات ومقارنات في الأشكال والمعلومات ليشير إلى أن الحضارة الإغريقية الكلاسيكية أسسها أو تأسست على جذور أفرو - آسيوية. وفي العام 1997 أصدر م. ل وست كتابه عن «وجه هليكون الشرقي»، مشيرا فيه إلى تلك «العناصر الغرب الآسيوية في الشعر والأسطورة اليونانيين»، موضحا تأثيرات ملحمة جلجامش على الكتابين المنسوبين إلى هوميروس: الإلياذة والأوديسا.
كل هذه الأعمال سبقت اشتغال فراج على موضوعه وبحثه عن «الجذور الشرقية للثقافة اليونانية». ولكن عفيف تميز عن تلك بمنهجيته التي وظفت معرفته بالآداب الأوروبية ومدارسها وسيلة للبحث. فهو استخدم تلك المناهج لتحليل الشخصيات وملاحقتها ومطاردتها مستخلصا منها الرمزية في المكان والزمان. فعفيف حاول أن يثبت الفرضية التي قالها بها من سبقه إن الحضارة اليونانية هي في «الجوهر والأساس حضارة شرقية أكثر منها غربية». ليتوصل في دراسته إلى إثبات «غلبة عناصر التخالف على عناصر التجانس بين العناصر الفكرية المكونة للثقافة اليونانية من جهة، والعناصر التي كونت الثقافة الغربية الحديثة بدءا بعصر النهضة من جهة ثانية» (ص 17).
حتى يثبت عفيف الفرضية عاد إلى الأصل (الجذور). وبما أن ملحمة جلجامش «هي أول الأعمال الأدبية الكاملة في تاريخ الأدب العالمي» وبما أن «الإلياذة والأوديسا هما أول الأعمال الأدبية اليونانية الكاملة» قرر أن «تبدأ الدراسة بالمقارنة بين الملحمة السومرية والملحمة الهوميرية» (ص 18).
يبدو أن فراج اعتبر عمله هذا بداية مشروع طويل. فهو يعتبر دراسته هذه «مدخلا تأسيسيا لدراسات تظهر تواصل العصب الثقافي الشرقي من هوميروس إلى شكسبير مرورا بالتراجيديين اليونانيين الكبار سوفوكليس وإسخيليوس» كذلك تظهر في خط موازٍ «فعل الديانات والفلسفات الشرقية في الفكر اليوناني الفلسفي من طاليس حتى الرواقيين والإبيقوريين مرورا بهيرقليطس وإفلاطون وأرسطو» (ص 19).
يبدأ عفيف إذا من الأصل. فالملحمة جلجامش التي اكتُشِفت في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي هي قصيدة تتألف في آخر نسخة لها من 12 لوحا (3600 سطر) مكتوبة باللغة الأكادية وهي اللغة السامية الرئيسية لبابل وآشور. ويشرح فراج فكرة الملحمة وفلسفتها من خلال متابعة فصولها وملاحقة أبطالها وقصة صراع الموت والحياة والجدل الصراعي بين الواقع والحلم، الممكن والمستحيل، الحياة العابرة والديمومة، والترحال البطولي من ديلمون (البحرين) إلى بلاد الأرز (لبنان) والرجوع إلى نقطة الانطلاق. جلجامش ابن المجتمع البطولي المأزوم يتصارع مع أنكيدو ابن الطبيعة (المتوحش النبيل) إلى أن ينتهي الصراع إلى مصالحة «تمثل وحدة جدلية» بين إنسان الحضارة وإنسان الطبيعة (ص 33).
يتألف كتاب فراج الذي لم ينجزه من سبعة فصول تبدأ بتفكيك ودراسة شخصيات ملحمة جلجامش ثم تنتقل إلى بحث الأبعاد الفلسفية والحضارية والفكرية لشخصية جلجامش ليصل إلى تحديد الأطر العامة للقيم البطولية في ملحمة جلجامش وإلياذة هوميروس. ومن هذه النقطة (نقطة الالتقاء) يبدأ فراج عقد مقارنةٍ لترسيم حدود التقاطع في مواصفات الآلهة في الثقافتين السومرية/ البابلية واليونانية. بعدها ينتقل للإشارة إلى المؤثرات الشرقية في الفلسفة اليونانية (طاليس، إنكسيمندريس، إنكسيفوراس، إنكسيميانوس، هيرقليطس، وفيثاغوراس). ولا يكتفي فراج بهذا القدر من اللقاء والمؤثرات بل ينتقل إلى الغرب المعاصر الذي أحيا جدلية القدر والإنسان حين نجح فلاسفة عصر الأنوار في إسقاط قناع القداسة عن نجاسة السياسة. في نهاية الكتاب لا يتفاخر فراج ولا يتباهى. فهو يعتبر أن نقدنا الغربَ له صدقيته «التاريخية والواقعية» ولكن التحدي الصعب الذي يواجهنا «نحن أبناء هذا الشرق والعالم المصاب في أكثر من مفصل، هو أن ننهض لنقدم البديل الحضاري على أرض الواقع» (ص 196).
العدد 1742 - الأربعاء 13 يونيو 2007م الموافق 27 جمادى الأولى 1428هـ