يُعد التبغ مصدر استنزاف كبيرٍ للموارد المالية العالمية، إذ يقدر أحد الخبراء الاقتصاديين لدى البنك الدولي أن الخسارة الصافية التي تنجم من استخدام التبغ تبلغ 200 مليار دولار سنويا وأن نصف هذه الخسارة تتكبدها الدول النامية. وتقدر هذه الدراسة أن كل طن إضافي من استهلاك التبغ تترجم عمليا إلى 650 وفاة إضافية سنويا وعبء مالي صافٍ على الاقتصاد العالمي يصل إلى 27.2 مليون دولار. وكي نضع أثر وباء التبغ العالمي في إطاره الصحيح نقول إنه لابد من ضرب هذه الأرقام في 7 آلاف لتقدير العبء الكلي لسوق التبغ العالمية الراهنة، علما أن هذه السوق لاتزال تنمو وتتسع.
وهذه الخسائر التي يتكبدها عالم تشح فيه الموارد تطرح أسئلة عن الأسباب التي مكنت صناعة التبغ من أن تصل إلى حجمها الضخم الراهن فالأمر أكبر كثيرا من مجرد حدث تاريخي نجم من الجهل المبدئي بالعواقب الطويلة الأمد لاستخدام التبغ. بل إن صناعة التبغ تعطي مثالا واضحا للبيئة الاقتصادية الاجتماعية التي تعطي بعض الناس حوافز قوية للقيام بأعمال وأنشطة ترجع بآثار سلبية كبيرة على الحكومات وخصوصا في إطار الصحة وما يرتبط بها من كلف.
ولمعرفة الكلفة الحقيقة للتبغ على مستوى الفرد والمجتمع، نذكر هنا دراسة من جامعتي ديوك وساوث فلوريدا تقول إن «كل علبة سجائر تكلف المدخن وعائلته والمجتمع ما يقرب من 40 دولارا بحساب ذلك منذ أول عهد المدخن بالتدخين بعمر 24 سنة وعلى مدى 60 سنة وهي موزعة على النحو الآتي: 33 دولارا يدفعها المدخن، و5.44 دولارات تتحملها، و1.44 دولار يتحملها المجتمع وتتضمن الكلفة ما يأتي: ثمن السجائر والضرائب والتأمين والرعاية الصحية والخسائر المالية بسبب الإصابات من التدخين».
وهناك مجموعة من العوامل توجد بيئة اقتصادية تجعل صناعة التبغ تدر أرباحا طائلة. أول تلك الأسباب هو أن صناعة منتجات التبغ زهيدة الكلف؛ إذ إن الكلفة الفعلية لورقة التبغ لا تكاد تذكر. ففي زيمبابوي - التي تعد من الدول المنتجة الرئيسية للتبغ في العالم - يحصل مزارعو التبغ على نحو 1.65 دولار للكيلوغرام الواحد من التبغ الخام عندما يبيعونه على الشركات التي تقوم بمعالجة الأوراق وتعطيها ثمنا يعادل 3 دولارات للكيلوغرام الواحد تقريبا ويكفي كل كيلوغرام من هذا التبغ لصنع نحو 1200 سيجارة. ثاني تلك الأسباب هو أن التبغ يحقق أرباحا ضخمة؛ إذ تعد شركات التبغ من أكبر الشركات التجارية أرباحا في العالم فمكاسب الشركات الكبرى التي تصنع التبغ (التي تقدر بنسبة المدفوعات أو عائدات الاستثمار) يساوي عدة أضعاف ما تكسبه الشركات الأخرى التي تعمل في غير هذا المجال والواقع أن شركات التبغ الكبرى تحقق أرباحا تقدر بمليارات الدولارات سنويا أي أن أرباحها تزيد كثيرا على ما تحتاج إلي من أجل الحفاظ على نطاق عملها الحالي. وثالث تلك الأسباب هو سيطرة حفنة قليلة من الشركات الضخمة على تجارة التبغ كلها ففي معظم بلاد العالم - ما خلا استثناءات نادرة كالهند وإندونيسيا - تسيطر مجموعة قليلة من الشركات على الشطر الأعظم من السوق ويستمر هذا الوضع بسبب العوائق التي تمنع دخول منافسين جدد. ورابع تلك الأسباب هو دعم صناعة التبغ من موازنة الأمة. ولعل من أغرب المفارقات أنه على رغم قدرة شركات التبغ على تحقيق أرباح طائلة كل عام فقد استطاعت إقناع الحكومات بأن توفر دعما ماليا لزراعة التبغ وفي بعض الحالات نجد هذا الدعم يترافق مع تمويل الحكومة لأبحاث تهدف إلى صنع تبغ تزيد فيه نسبة النيكوتين. فدول الاتحاد الأوروبي تدفع من المال لتحسين إنتاج التبغ أكثر مما تدفعه للترويج للامتناع عن التدخين كذلك فإن زراعة التبغ تعد البرنامج الأكثر كلفة بين كل برامج المحاصيل التي تدعمها دول الاتحاد الأوروبي ففي العام 1991 زادت المساعدات السنوية التي تقدم إلى التبغ على 23 ضعفا لما يقدم من مساعدة لبرامج إنتاج الحبوب إذ بلغ متوسط الدعم المقدم للتبغ 3.8 ملايين دولار يوميا وقد وصفته هيئة المراقبة المالية للاتحاد الأوروبي بأنه تبديد للأموال العامة. ولو أن الاتحاد الأوروبي اكتفى بأن يدفع لكل مزارعي التبغ في دول الاتحاد مبالغ مالية تساوي كامل دخلهم الصافي شريطة أن يمتنعوا عن زراعة التبغ على الإطلاق فإن نفقات الدعم ستنخفض بنسبة 44 في المئة.
لقد تبنى البنك الدولي في العام 1992 سياسة رسمية في موضوع التبغ، إدراكا منه لأضرار استخدام التبغ على الصحة وترتكز هذه السياسة على أن: تعتمد أنشطة البنك في القطاع الصحي بما في ذلك عمل القطاع، الحوار السياسي، والإقراض على تشجيع الامتناع عن التدخين وتعاطي التبغ.
لا يقدم البنك الدولي قروضا تستخدم مباشرة في نتاج التبغ أو صناعته أو تسويقه، ولا يستثمر في هذه الجوانب، ولا يضمن أي استثمار أو قروض فيها، أما الدول القليلة التي تعتمد اعتمادا كبيرا على التبغ مصدرا للدخل وللعمالة الأجنبية (مثل الدول التي يشكل التبغ فيها أكثر من 10 في المئة من الصادرات) التي يكون التبغ فيها خصوصا مصدر دخل الفقراء المزارعين والعمال الزراعيين، فإن البنك الدولي يدرس الأمر ضمن إطار نظرته إلى مطالب التنموية لهذه الدول في توزيع مواردها بعيدا عن التبغ.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1741 - الثلثاء 12 يونيو 2007م الموافق 26 جمادى الأولى 1428هـ