مازلت أتذكر جيدا ذلك اليوم 5 يونيو/ حزيران 1967، كان أول يوم في امتحان شهادة الثانوية العامة، في قاعة الامتحان الواقعة في حي الملز بالرياض كان يجتمع كل طلاب الرياض للامتحان في تلك القاعة، خرجت من الامتحان مع زميلي مطلق القحطاني الذي أصبح استاذا في جامعة الملك عبدالعزيز واستأجرنا سيارة أجرة للعودة إلى منزلينا المتجاورين في حي الشميس.
قبل دخول القاعة صباحا كنا قد سمعنا أخبار الهجوم الإسرائيلي على مصر ولذلك حينما ركبنا سيارة الأجرة طلبنا من السائق فتح المذياع لنعرف آخر التطورات.
الطائرات الإسرائيلية كانت تتهاوى الواحدة تلو الآخرى، وأحمد سعيد بصوته المتميز يبشرنا بقرب الانتصار وأن سيدة الغناء العربي أم كلثوم ستغني في تل أبيب، أما الطائرات الإسرائيلية فمازالت تتهاوى.
بين حي الملز إلى حي الشميس سقطت نحو خمسين طائرة يهودية، التفتُّ بحيرة شديدة إلى صديقي مطلق قائلا: هل هذا صحيح يا مطلق؟ هز رأسه وعلامات استفهام كثيرة تبدو واضحة عليه.
في اليوم الثاني وأمام قاعة الامتحان كان الزملاء يتشاورون عن أفضل عمل يجب أن يقوموا به، وكانت أخبار الانتصارات المفرحة تملأ جوانب قلوبهم وتدفعهم للقيام بأي عمل لمؤازرة إخوانهم على الجبهات المفتوحة ضد العدو الواحد. الغالبية توصلت إلى قناعة بعدم دخول الامتحان والمطالبة بدعم القوات العربية والضغط على الأميركان.
وزير المعارف آنذاك الشيخ حسن آل الشيخ - رحمه الله - أقبل مسرعا وبذل أقصى جهده لإقناع الطلاب بدخول الامتحان، ونجح في مهمته، ولكن بعد الانتهاء من الامتحان فعل الطلاب ما اتفقوا عليه، وكانت قصة أخرى! وانتهت حرب الأيام الستة أو حرب الساعات الست كما قال بعض الكتّاب اليهود وكانت النتائج مذهلة والصدمة هائلة! احتلت الضفة الغربية من فلسطين وكذلك القدس الشرقية والجولان وسيناء وجزء من لبنان، وغزة... أي أن «إسرائيل» احتلت أكثر من ضعف مساحتها السابقة.
الذين قتلوا من الجيوش العربية نحو 20 ألفا على حين كان قتلى الصهاينة نحو 777 جنديا، أما السلاح العربي المدمر فلا مجال للمقارنة بينه وبين ما دمر من السلاح الصهيوني.
حاول المصريون آنذاك تخفيف وقع الهزيمة فأطلقوا عليها مسمى «النكسة» ثم جرت تمثيلية استقالة جمال عبدالناصر والمطالبة بعودته ثم بدأ ما يسمى «حرب الاستنزاف» ومحاولة بناء الجيش المصري مرة أخرى.
مضى على هذه الحرب المؤلمة 40 عاما، وبمناسبة تلك «الأربعون» خصصت مجموعة من الفضائيات حلقاتٍ كاملة عن تلك الحرب، وكتب عنها الكثيرون، وتحدثوا عن المآسي العربية التي صاحبت تلك الحرب ومازالت حتى الآن، وتحدثوا عن الوضع العربي السيئ الذي مازال يكبل العرب بقيوده ويمنعهم الانطلاق نحو الأفضل.
أعرف أن الوضع العربي عموما لايزال عاجزا عن إيجاد حلول جذرية لاستعادة أرض العرب المحتلة واستعادة الكرامة العربية المهدرة في كل مكان.
وأعرف أن سيناء لم تسترجع كما ينبغي فالقيود الإسرائيلية تكبلها وتمنع المصريين بسط سيادتهم الكاملة عليها، وأعرف أن الجزء الذي استرده الفلسطينيون لايزال تحت السيطرة الإسرائيلية الفعلية وأن الصهاينة يعيثون فسادا وتدميرا وقتلا في الأراضي الفلسطينية «المحررة» وأعرف - أيضا - أن الاقتتال الفلسطيني أحدث شرخا هائلا في القضية الفلسطينية على المستوى الفلسطيني وعلى المستويين العربي والعالمي، وأعرف أن الفلسطينيين هم المسئولون بالدرجة الأولى عمّا يحدث في بلادهم. صحيح أن هناك أيدي خبيثة تعمل على إذكاء روح الفرقة كراهية لـ «حماس» ولمبادئها ولكن تلك الأيادي وجدت من يقف إلى جانبها من الفلسطينيين ولولا ذلك ما استطاعت أن تفعل شيئا.
أعرف كل ذلك وأعرف أكثر منه ولكني أعرف أيضا أن هناك وجها آخرَ لمأساة يجب أن يقودنا إلى التفاؤل والعمل بجدية لتحقيق نصر قادم إن شاء الله.
وابتداء إن اليأس ليس من صفات المسلمين وليس من صفات الشعوب القوية التي تؤمن بقضاياها وتعمل من أجلها وتكرّس لها حياتها.
في تاريخنا القديم والحديث شعوب احتُلَّت ودُمِّرَت كل قدراتها ولكنها استطاعت بعد ذلك أن تتجاوز كل مصائبها فتطرد محتلها وتبني بلادها وتصبح قوة لها شأنها في عالمها.
أمتنا ليست أسوأ من غيرها، بل لديها كل مقدمات الانتصار، هذا إذا أخذت بهذه المقومات.
وأمامنا تغيرات إيجابية لم تكن موجودة قبل أربعين عاما وبعدها بسنوات، وهذه الإيجابيات علامات مضيئة في طريق النصر يجب تنميتها حتى نصل إلى نهاية الطريق.
عندما انتصرت «إسرائيل» في حرب الأيام الستة أو الساعات الست تكرّس في وجدان الصهاينة أنهم قادرون على هزيمة العرب بالطريقة نفسها وفي أي وقت ولكن ما حدث بعد ذلك كان شيئاَ آخرَ هز تلك القناعة وهذا أول طريق الانتصار.
في العام 1973 حدثت حرب أكتوبر/ تشرين الأول وحقق فيها العرب نصرا رائعا ولولا بعض التدخلات والضغوط الهائلة لكانت لتلك الحرب نتيجة مغايرة عمّا حدث في نهايتها.
يكفي في هذه الحرب أنها أقنعت الصهاينة بأن العرب بإمكانهم أن ينتصروا عليهم أو - على أقل تقدير - ألا ينهزموا أمامهم بكل سهولة كما حدث في السابق.
وفي مايو/ أيار 2000 كانت هزيمة اليهود في لبنان وخروجهم من جنوبها من دون شروط، وكانت المقاومة وراء هذا الانتصار الذي أضاف قناعة أخرى عند اليهود بأنهم ليسوا كل شيء وأضاف في الوقت نفسه قناعة عند العرب يأنهم يستطيعون فعل شيء إذا أرادوا.
وفي 2006 كان هناك نصرٌ آخرُ اعترف به الصهاينة وكان في لبنان أيضا ومن المقاومة كذلك.
هذه الانتصارت يجب أن تكون واضحة أمام كل عربي ليفهم من خلالها أن العمل المنظم الجاد يمكن أن يحقق له الانتصار الذي يأمله، وأن فكرة أن الصهاينة ومن يقف وراءهم هم المنتصرون دائما فكرة مرفوضة وأن الواقع يكذبها.
الحديث عن زوال «إسرائيل» التي يرددها الرئيس الإيراني - بغض النظر عن جديتها - أمر لم يكن أحد يجرؤ على قوله. هذا الحديث أزعج الصهاينة كثيرا كما أزعج أعوانهم أكثر، وانتقده الأمين العام للأمم المتحدة، ووصف تلك التصريحات بأنها «مؤذية» وليت هذا «الأمين» قال شيئا عن جرائم الصهاينة المستمرة في فلسطين وفي كل اتجاه!
الحديث عن زوال «إسرائيل» ردده يهود وفي أكثر من مناسبة وكان رئيس الكنيست السابق إفراهام بورغ واحدا من هؤلاء إذ وصف الدولة اليهودية بأنها «غيتو يحمل بذور زواله في ذاته» كما أنه هاجم بشدة الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة مقارنا إياها بتصرفات النازيين.
الإيجابيات التي أراها ليست محصورة في بعض المواجهات التي لم يستطع العدو أن يحقق فيها انتصارات وانهزم في بعضها ولكن هناك أشياء أخرى لها أهميتها.
الحديث عن الإصلاح الشامل في عالمنا العربي كان من المحرمات، وكان معظم من يتحدث عن الإصلاح يُلقى في غياهب «الجب» أما الآن فنحن نرى أن هذا الحديث أصبح سمة بارزة في الخطاب العربي وعلى مستويات كبيرة.
أعرف أن بيننا وبين ما نتمناه طريقا طويلا ولكن من الجيد أن نبدأ ونستمر في الحديث ويشعر كل فرد - مهما كان دوره ومكانته - بأن الإصلاح سيستفيد منه كل فرد في عالمنا العربي.
إعلامنا تحسن كثيرا، ووسائل الإعلام دفعت الكثيرين إلى الإصلاح أو - على أقل تقدير - جعلت البعض يتردد كثيرا قبل الإقدام على الإفساد وهذه حسنة أخرى تضاف إلى الحسنات الأخرى التي أشرت إليها.
التفاؤل يدفعنا إلى العطاء والمثابرة ومحاولة بذل الجهد للوصول إلى الهدف الذي نتمناه.
الشعوب إذا تحركت استطاعت أن تصل، والصهاينة ليسوا أكثر منّا قوة وعقلا وإمكاناتٍ. الفرق بيننا وبينهم أنهم يعرفون ماذا يريدون ونحن تائهون هنا وهناك.
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 1740 - الإثنين 11 يونيو 2007م الموافق 25 جمادى الأولى 1428هـ