إعلان نائب وزير الداخلية الإيراني عن وقوع القواعد الأميركية في المنطقة في مرمى الصواريخ الإيرانية وما أعقبه من تصريحات «عنترية» أطلقها أدميرال البحر وزير الدفاع السابق علي شامخاني بشأن حرق المنطقة وتدميرها في حال نفذت الولايات المتحدة ضربة عسكرية ضد إيران... كل هذا الكلام العشوائي وغير المسئول جاء ليصب في مصلحة سياسة أميركية تتحين الفرص لتقويض الاستقرار في منطقة الخليج. فهذه اللغة العنيفة تحبذ واشنطن سماعها لأنها في النهاية تخدم خطة التوتير التي دأبت على نشرها منذ احتلال العراق وتحطيم دولته وجيشه في العام 2003.
إطلاق تصريحات من هذا النوع، والتراجع السريع عنها في اليوم التالي، يرفع نسبة قلق المنطقة ويضع شعوبها في دائرة الخطر النفسي على الأقل. والإصرار على سياسة الاستمرار في إطلاق البالونات الحرارية يضع بدوره دول الخليج العربية أمام خيار وحيد يفرض عليها التعاطي بأسلوب مخالف عن ما صدر عنها من مواقف واضحة ترفض استخدام القوة في التعامل الدولي مع ملف التخصيب النووي.
لغة الصواريخ الشامخانية تصب في مصلحة الاستراتيجية الأميركية التي تعتمد سياسة تفكيك المنظومة الدفاعية في منطقة الخليج وتوزيعها على ثنائية عربية - فارسية أو سنية - شيعية. ومثل هذه السياسة الثنائية تساهم في رفع درجة التجاذبات الأهلية وتسخن العلاقات وتحقنها بصواعق تفجير تطيح بمنظومة الدفاع الاقليمي. وهذا في المحصلة النهائية ليس في مصلحة إيران وبالتأكيد لا يخدم المصالح العربية. فإيران جغرافيا هي جزء من المنظومة الدفاعية الاقليمية وكل محاولة عزل أو ضرب لها يزعزع استقرار منظومة الدفاع المشتركة. وهذا ما اشتغلت عليه دول الخليج العربية حين اجمعت على رفض الدخول في حرب جديدة. فالمنطقة عانت كثيرا من الحروب ودفعت الاثمان لتسديد فواتيرها وارتدت عليها في السياسة والاقتصاد والتنمية وهي حتى الآن لا تزال تتعرض لسلبيات احتلال العراق وتداعيات الفوضى التي تمتد فيه وتهدد دول الجوار بإنتشارها.
عدم موافقة دول الخليج العربية على تغطية احتمال استخدام الولايات المتحدة القوة العسكرية عطل على واشنطن إمكانات الحركة والتصرف بحرية في المجال المذكور. والموقف العربي جاء بناء على قراءة سياسية للمسألة وانطلاقا من الحرص على عدم جرجرة المنطقة إلى مواجهة ستدفع ثمن كلفتها وفواتيرها دول الخليج مجتمعة فضلا عن انكشاف ساحاتها لمزيد من التدخلات الأجنبية. فالحرب في حال وقعت ستكون الولايات المتحدة بعيدة عن مجالها الجوي وبالتالي ستكون دول المنطقة في مقدمة الواجهة التي ستتلقى الضربات المباشرة.
هذا الاعتبار الجيوبوليتكي دفع دول الخليج العربية إلى رفض منطق القوة وتجديد أدوات الحرب. وللاعتبار نفسه اتجهت دول الخليج إلى اتباع سياسة التفاهم مع طهران لأن إيران تشكل طرفا في المنظومة الإقليمية وما يصيبها ينعكس ضررا على أمن المنطقة ومصالحها.
المنطق السياسي المذكور ليس ضعفا وإنما يمكن وصفه بأنه محاولة موضوعية لقراءة توازنات القوة في المنطقة ونهاياتها المتوقعة. فأميركا في المعادلة الاستراتيجية الدولية هي الأقوى ، والحرب في حال اندلعت ستكون في منأى عنها، والخسائر الناجمة عنها ستكون مشتركة بين إيران ودول الخليج العربية. واشنطن لا شك ستدفع الثمن ولكن خسائرها ستكون الأقل نسبيا وقياسا لما سيصيب المنطقة من دمار وخراب.
توقعات مفترضة
التحليل المسبق للنتائج شكل القوة السياسية التي دفعت دول الخليج العربية إلى رفض منطق الحل العسكري وما يعنيه من نتائج سلبية وربما كارثية على الطرفين العربي والإيراني. فالدول العربية لا مصلحة لها في الحرب. والحرص على المصلحة لا يعني خوفا وإنما يمكن وضعه في سياق استراتيجي يطمح إلى ضبط التوازن الاقليمي في إطارين: الأول سياسي يتمثل في الطرف العربي الذي يشكل مظلة تحمي المنطقة وإيران من ضمنها نحو الانزلاق إلى حرب تدميرية غير محسوبة. والثاني أمني يتمثل في الطرف الإيراني الذي يشكل مظلة تحمي المنطقة والدول العربية من ضمنها وتمنع الولايات المتحدة من الانفراد بالساحة الخليجية.
الدول العربية إذا لن تستفيد من توجيه أميركا ضربة عسكرية لإيران. لأن حصول مثل هذا الاحتمال السلبي يعني انكشاف دول الخليج أمنيا ودفعها اضطرارا إلى اعتماد سياسة الوصاية العسكرية في المستقبل. وهذا في البعد الاستراتيجي لا يصب في مصلحة دول الخليج العربية وبالتأكيد لن يخدم إيران والمنطقة.
مشكلة هذا التحليل المنطقي أنه يحتاج دائما إلى لغة واعية تتعامل مع حساسيات المنطقة بألفاظ عقلانية تضبط الانفعالات وتضعها تحت سقف المصلحة المشتركة ووحدة منظومة الدفاع الإقليمية في محاولة لتجنيب المنطقة من مشروع أميركي يخطط إلى مزيد من التقويض والفوضى. ولكن للأسف لا تتوافر بكثرة هذه اللغة المنضبطة في مداولات السوق إذ تشوبها تصريحات «عنترية» على غرار الصواريخ الشامخانية التي اطلقت أمس الأول وهددت المنطقة بالحريق الشامل الذي يشمل القواعد العسكرية والمؤسسات المدنية.
طبعا لم يكن قصد شامخاني حين اطلق صواريخه الايديولوجية تهديد المنطقة ودول الخليج العربية. فالكلام حاول استهداف قواعد الولايات المتحدة العسكرية ومصالحها النفطية والحقول والممرات والمؤسسات المتفرعة عنها بقصد تخويف واشنطن وكبح استعداداتها الحربية ومناوراتها القائمة من مياه الخليج إلى صحراء النقب.
إلا أن الكلام العشوائي وغير المسئول أخطأ الأهداف وأصاب دول المنطقة بحال من القلق والتوتر، وربما يعطي فرصة للولايات المتحدة بإعادة تدوير قواعد اللعبة وحقن الحل العسكري بالمزيد من المنشطات والمقويات.
هذا النوع من الصواريخ الشامخانية لايساعد على الاستقرار حتى لوكان القصد منه توجيه رسالة تخويف للإدارة الأميركية التي تحاول تطوير العقوبات الدولية ضد إيران مستفيدة من مداولات قمة الثماني في ألمانيا وما صدر عنها من إشارات سلبية في بيانها الختامي.
طهران بحاجة ماسة إلى تطمين الدول العربية من خلال الشراكة الإقليمية وتطوير منظومة الدفاع انطلاقا من المصلحة المشتركة وأمن المنطقة واستقرارها. والجغرافيا في هذا المعنى الاستراتيجي تلعب دور الضابط لعناصر التوحيد حتى لو تعارضت المصالح جزئيا. والتاريخ المشترك أيضا يلعب دوره في ضبط التشنجات الأهلية تحت سقف المصير المشترك. والجوار السياسي وما يتطلبه من تنسيق واحترام المصالح المتبادلة يعزز حاجات المنطقة إلى منظومة دفاع مشتركة تقلل من الاعتماد على «الخارج» لضمان الأمن وتأمين الاستقرار.
هذا الجانب المصلحي الأمني كان يجب على شامخاني أن يلحظه قبل إطلاق صواريخه التي تراجع عنها، وهددت المنطقة بالحريق الشامل. فمثل هذا الكلام العشوائي وغير المسئول تحبذه واشنطن دائما لأنه يعطيها الذرائع السياسية ويقدم لها مادة خصبة لتستخدمها داخليا في اقناع الرأي العام الأميركي بخطورة الوضع وعدالة قضيتها كذلك يوفر لها قنوات اتصال تحتاج إليها لرفع درجة التوتر وتسخين الأجواء تحسبا من هجوم إيراني مفترض على المنطقة. فاللغة هذه هي موسيقى تحرك المشاعر بإتجاه يخدم السياسة الأميركية.
اللهجة التصعيدية تلبي دائما حاجات واشنطن ليس لأنها وهمية أو تبالغ في قدراتها بل لأنها تعطيها صكا بالبراءة وتنقلها من طرف يريد الهجوم على إيران إلى طرف يريد الدفاع عن المنطقة ودولها العربية. وبطبيعة الحال فإن دول الخليج العربية في المعادلة الأولى ترفض أو لا تحبذ اللجوء إلى القوة ضد إيران ولكنها في المعادلة الثانية تقبل ولن ترفض الدفاع عنها في حال تعرضت لتلك الصواريخ الشامخانية التي قال عنها، وقبل أن ينفيها في اليوم التالي، إنها كفيلة بإحراق المنطقة وتدمير قواعدها ومصالحها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1740 - الإثنين 11 يونيو 2007م الموافق 25 جمادى الأولى 1428هـ