العدد 1739 - الأحد 10 يونيو 2007م الموافق 24 جمادى الأولى 1428هـ

ها هنا نامت الآهة في الأرض صريعة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قد يكون من المفيد وسط هذا الزحام من الحوادث اليومية والمتلاحقة تسجيل الوقائع بالقلم الخاضع لنفوذ الذاكرة القادرة على تسجيل الصوت والصورة التي لم تتلاش بعدُ ملامحها للإمساك بأقصى ما يُمكن من التاريخ الحي القادر على صنع المشهد الحقيقي لمعادلة الصراع القائم ومن ثم تحديد المواقف الملائمة، واستقبال النتائج المتوقعة... لذلك فقد يكون حديثي اليوم مزدوجا من حيث ارتهانه أولا لمشاهدات سابقة في العاصمة الإيرانية (طهران)، وارتباط ذلك ثانيا بمناحي أخرى واكبت تلك المشاهدات التي قد تكون موضوعاتها عربية محضة، وما يجمعها بالأجواء الطهرانية (نسبة إلى طهران) سوى أنها انعكست لي هناك والتي منها ما جمعني من لقاء طويل بأحد الإخوة العراقيين في باحة الفندق الرئيسية المشاركين في إحدى المؤتمرات التي تنظمها الحكومة الإيرانية بشكل سنوي لموضوعات مختلفة بعضها سياسي والآخر ثقافي أو حتى اقتصادي، والرجل بالمناسبة هو خمسيني مخضرم عاصر الحكم البعثي طيلة ثلاثين عاما وعاصر عراق ما بعد الاحتلال... هو يصف العراق اليوم بالمعدة المتخمة التي يلزمها التقيؤ حتى تطيب، لذلك فإن هذه المعدة (كما يراها صاحبنا) مازالت مُتخمة وبالتالي فهي تتقيأ ليل نهار ولم يحن بعد لدائها أن ينجلي، وهو وفي كل يوم يخرج من بيته صباحا إلى عمله بإحدى الدوائر الحكومية يهيئ نفسه وعائلته إلى أنه قد يكون أحد ضحايا تلك التُخمة فيكون قيئا لها في أي وقت ومتى ما شاءت.

المصيبة الكبرى التي بات يعاني منها العراق هي الانقلاب الدموي والحاد الذي رافق السلوك الشخصي للعراقيين وتحوّله إلى مستويات سيكولوجية خطيرة... فالعراقي المُحزّب اليوم لا «يتأنّى» لحظة واحدة في أن يهبك رصاصة في صدغ رأسك أو قلبك أو أي مكان يسمح لروحك بالإزهاق، بل وحتى المجاهدين الكبار والسياسيين الشرفاء والعشائر النبيلة (بحسب وصفه) باتوا لعبة طيّعة في أيدي أراذل خلق الله هناك، فليس غريبا أن يجلس (فلان) صاغرا أمام أحد منتسبي جيش المهدي، أو أن يجلس (فلان) ذليلا أمام قطّاع الطرق في ديالى أو صحراء الأنبار المتدثرين بالمقاومة... لذلك فإن الحاكم الحقيقي للميدان هناك هو ابن الشارع الذي لا يتورّع في فعل أي شيء، بل إنه حوّل قيمة الدم إلى أزهد ثمن يتخيّله الإنسان.

الصورة الداخلية للوضع العراقي دائمة التبدّل، وهي مُركّبة إلى درجة تجعلها أحد الطلاسم التي لا يمكن فكّها بسهولة، وكذلك الولاءات والعلاقات التي تربط الكتل السياسية والجماعات المسلحة والأحزاب وحتى المجاميع المدنية، فقبل أسابيع انتقد مزهر مطني عواد أحد البعثيين الكبار نائب رئيس مجلس قيادة الثورة المنحل عزة إبراهيم الدوري وكيف أنه تاجر باسم القضية العراقية وجرّ حزب البعث إلى ميدان يناقض خطّه العلماني في تحالفه مع تنظيم «القاعدة»، فالدوري - وبحسب مزهر مطني عواد - قد أطلق ذقنه بعد الاحتلال ويُلقب الآن بـ «شيخ الإسلام» ويقبّل أتباعه يده، ويساعده الآن في قيادة الحزب عبدالباقي عبدالكريم السعدون (سني) من أهالي الناصرية ورشيد طعّان كاظم (سُنّي) من أهالي ديالى.

في جانب آخر وعلى مستوى الأحزاب السُنّية فهي تتطاحن مع بعضها من جهة ومع خصومها من الأطراف الأخرى من جهة ثانية، وهي مُستباحة من الطرفين، فتنظيم «القاعدة» يصفهم بالمرتدين وجيش المهدي يتهمهم بالعمالة إلى «القاعدة» والتكفيريين، لذلك فإن هذه الأحزاب بدأت تتآكل من الداخل، وقد تضطرها الظروف إلى القبول بسقف القاعدة كأمان لها من التصفيات الجسدية أو الاغتيالات السياسية، وخصوصا أنها تنشط في الحواضن الجغرافية والاجتماعية التي تسيطر عليها «القاعدة».

الأحزاب الشيعية هي الأخرى تتقاتل على النفوذ داخل مراكز الدولة، وعلى رغم أنها حليفة مع بعضها بعضا داخل الائتلاف العراقي الموحّد فإن قعقعة السلاح فيما بينها لم تتوقّف ولو لحظة واحد ممتدة من بغداد وحتى محافظات الجنوب... فالنجف وكربلاء هما مُلك مطلق لفيلق بدر والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي، في حين تبقى بغداد مُلكا لجيش المهدي والتيار الصدري، ويستمر الصراع بينهما لإحكام السيطرة على البصرة والناصرية وبعض نواحي الجنوب، وبطبيعة الحال فإن النفوذ لن يكون نفوذا سياسيا قبل أن تُزكم الدماء أنوف المتحاربين، وقبل أن تتطاير رؤوس وتزهق الأرواح.

أحد المربعات الخطيرة - التي بدأت في التمدد مُشكّلة رهبة غير عادية للمتابعين لها - هو مآل الوضع الاجتماعي في العراق منذ سقوط النظام العفلقي، فعدد الأرامل في ازدياد مخيف وقد بلغ إجمالي عدد الأرامل العراقيات أكثر من ثلاثة ملايين أرملة، في حين بينت دراسة متخصصة لمنظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة في بغداد، أن عدد الأيتام في العراق يقدر بنحو أربعة إلى خمسة ملايين طفل نتيجة الأعمال المسلحة والوضع الأمني غير المستقر، والغريب أن عدد الأيتام بعد حربي الخليج الأولى والثانية وفي حقبة التسعينات برمّتها كان مليونا ومئة ألف يتيم في العراق، إلاّ أن هذا الرقم تضاعف بصورة جنونية خلال السنوات الأخيرة بعد الاحتلال في 9 إبريل/ نيسان 2003 وهي أرقام مخيفة تهدد سلامة اللحمة المجتمعية في الداخل.

إن هذا التوصيف قد يكون الصورة المُحسّنة للوضع الحقيقي في الداخل العراقي، بل إن الكثير من العراقيين يحجمون عن الحديث بشكل صريح مع اشتداد وتيرة الانتقام ورخص الأرواح، فحديث بمثل ما ذكره صاحبنا لن يقل ثمنه أبدا عن طلقة في رأسه تُسكته إلى الأبد.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 1739 - الأحد 10 يونيو 2007م الموافق 24 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً