بدأ الموفد الفرنسي إلى بيروت اتصالاته مع الفرقاء اللبنانيين لدعوتهم إلى مؤتمر حوار غير رسمي يعقد في باريس في نهاية الشهر الجاري بهدف التوصل إلى تفاهم وطني على الأزمة التي تفاقمت بعد العدوان الأميركي - الإسرائيلي في الصيف الماضي.
الدعوة الفرنسية التي حملها جان كلون كوسوران جاءت بعد يوم من نهاية المهلة التي حددها مجلس الأمن للتوافق اللبناني على مشروع «المحكمة ذات الطابع الدولي». ونهاية المهلة تعني أن «المحكمة» باتت سارية المفعول دوليا ولم تعد تحتاج إلى نقاش داخلي يفتح ملفات أخرى تتصل بالملاحظات الإقليمية على قانون المحكمة أو المخاوف من تسييسها.
«المحكمة الدولية» وضعت على سكة الحديد وهي تحتاج إلى محطات زمنية حتى تصدر أحكامها النهائية. وفي موازاتها تبدو الأزمة اللبنانية مرشحة لاستحقاقات كثيرة قد تغلق أبوابا مفتوحة وربما تفتح أبوابا مغلقة. وهذا الوضع المعقد والمركب ليس جديدا على بلد صغير انكشفت ساحته وانفتحت على احتمالات متضاربة بعد تقطيع أوصاله في عدوان يوليو/ تموز 2006. فالبلد الذي كان يحتاج إلى نقاهة أو عناية تعرّض بعد وقف إطلاق النار وصدور القرار 1701 لهزات داخلية شكلت استقطابات طائفية ومذهبية وأسست سلسلة بؤر أمنية وتفجيرات واغتيالات واعتداءات على حياة المواطنين ومواقع الجيش وصولا إلى إدخال الدولة في حرب استنزاف بدأت ترتسم معالمها السياسية منذ ثلاثة أسابيع على ضفاف ومداخل مخيم «نهر البارد» في الشمال.
الدولة الآن كما يبدو في ورطة. فهي غير قادرة على حسم المعركة ضد شلة «فتح الإسلام» ولا تستطيع التراجع عن قرار سياسي يمس أمنها الوطني. وهذا الأمر في حال استمر إلى فترة طويلة سيضع أمام الدولة المزيد من العراقيل وخصوصا أن الإدارة الأميركية مترددة في تسليح الجيش وتزويده بالذخيرة المناسبة التي تعطيه دفعة نوعية على مستوى التوازن العسكري.
التردد الأميركي يكشف في النهاية عن سياسة ويلقي الضوء على حقيقة مواقف إدارة واشنطن. فهذه الإدارة أعطت الضوء الأخضر لحكومة إيهود أولمرت لتحطيم البنية التحتية للدولة والسكان في الصيف الماضي ولم تعارض سياسة تقطيع الأوصال المبرمجة التي اتبعتها تل أبيب لإضعاف لبنان وحرق قراه الجنوبية وإبعاد المقاومة عن الحدود وعزل الحكومة في دائرة ضيقة. والإدارة نفسها اعترضت بداية على دعوة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك إلى عقد مؤتمر «باريس 3» لدعم لبنان وتعويض خسائره ومساعدته على إعادة إعمار ما دمرته الحرب. وحين وافقت الإدارة على عقد المؤتمر اشترطت إرسال المعونات بسلسلة مطالب منها تحقيق إصلاحات اقتصادية. وبما أن إمكانات الحكومة على اتخاذ مثل هذه القرارات الحاسمة معدومة أو مشلولة تذرعت واشنطن بالمسألة لتأخير وعودها. وحين طالبت الحكومة إدارة جورج بوش بتجهيز الجيش بالمعدات اللازمة ترددت واشنطن ثم مانعت تلبية الحاجة. وعندما وقعت هجمات الشمال على الجيش لم تسارع واشنطن إلى تلبية الطلبات بل طلبت من بعض الدول العربية إرسال ذخائر لا تساعد على الحسم بل تشجع على تطويل المعركة واستنزاف الدولة.
سياسة ملتوية
على موازاة هذه السياسة الملتوية جرت على الضفة الأخرى سلسلة مبادرات ولقاءات ونظرات وابتسامات تمثلت في زيارات وفود أميركية وأوروبية ودولية لدمشق واجتماعات تنسيق عملية وعملانية بين سورية والولايات المتحدة في شرم الشيخ وإيران وأميركا في بغداد تتوجت أخيرا بكلام واضح عن وجود اتصالات سرية مع حكومة تل أبيب واستعداد أولمرت للتفاوض بشأن الجولان مقابل تنازلات قاسية ومتبادلة بين الطرفين. وتقاطعت تلك السياسة الأميركية الملتوية بظهور توجهات رسمية في الإعلام تركز على أزمة إقليم دارفور في السودان واتهام «القاعدة» بالمسئولية عما يحصل في «نهر البارد» والقفز عن كل ما يشاع ويقال في السياق المذكور.
كل هذه الألاعيب الأميركية لم تحصل مصادفة، فهي في النهاية ترسل إشارات وترسم توجهات لا تصب في مصلحة الكيان اللبناني (دولة ومقاومة). وزيارة المبعوث الفرنسي بيروت واتصالاته بمختلف الفرقاء لا تخرج عن تلك السياقات التي تؤشر إلى وجود صفقة دولية وإقليمية يتم طبخها على النار. والكلام الذي نسب إلى وزير الخارجية الإيطالي بعد عودته من دمشق ثم نفاه لاحقا بشأن مشروع المقايضة على حساب لبنان وفلسطين والعراق لا يستبعد، ويرجح في ضوء مراقبة التداعيات والاحتمالات أنه الاتجاه الذي أخذت تسلكه أوروبا بالتفاهم مع الولايات المتحدة. وفرنسا ساركوزي من خلال إطار البوابة اللبنانية تعتبر الآن، بعد خروج شيراك من الإليزيه، أفضل من يمثل التوجهات الأميركية في سياقها الأوروبي. والدعوة التي وجهت إلى كل الفرقاء للحضور إلى باريس بعد استقبال الجنرال ميشال عون ترافقت مع كلام فرنسي واضح عن استعداد لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق. وكل هذه العناوين هي خطوة أولى في إطار تشكيل رؤية مخالفة لا تنسجم بالضرورة مع شعارات الحرص على وحدة لبنان وحريته وسيادته.
الحرص على هذا البلد الصغير لا يقتصر على تسليك مجرى «المحكمة الدولية» التي يقال إنها وضعت على السكة ولن تصل إلى محطتها الأخيرة قبل العام 2012 وإنما كان لابد أن يتمظهر في منع تل أبيب من تحطيم لبنان وتقطيع أوصاله ثم محاصرة الدولة وعزلها وإضعافها وأخيرا توريطها في «حرب استنزاف» اندلعت بسبب نقل شبكات «القاعدة» وخلاياها من بلاد الرافدين إلى بلاد الأرز. فإقرار المحكمة دوليا لا يكفي لإنقاذ البلد الصغير من التفكك، والقرار 1757 لا يمنع استمرار مسلسل التفجيرات وسياسة القتل. والتوافق على مشروع المحكمة لا يحقق العدالة مباشرة في وقت تعطي أميركا إشارة لتل أبيب بتحطيم البلد وتعطيل إعادة إعماره والامتناع عن تزويد جيشه بالأسلحة المناسبة للدفاع عن حدوده والقيام بواجباته. فكل هذه السياسة الملتوية تدل على وجود شبهات تخفي مجموعة أوراق قد تظهر على طاولة الحوار التي تعمل فرنسا ساركوزي على ترتيبها بين مختلف الفرقاء اللبنانيين في باريس.
فرنسا في ظل الرئاسة الجديدة تختلف عن السابقة وخصوصا في مسألة توزيع الأدوار وتقاسم النفوذ مع الولايات المتحدة. وحين يكون ساركوزي أقرب إلى تل أبيب منه إلى بيروت فمعنى ذلك أن الأولويات الإسرائيلية ستأخذ مكانها المناسب وموقعها المؤثر في إدارة الأزمة اللبنانية. وأولويات أولمرت تضع الأمن الإسرائيلي على رأس القائمة والمحكمة الدولية في آخرها. وهذا يعني أن تل أبيب ستكون جاهزة للبحث مع أي طرف إقليمي يملك الإمكانات وعنده الاستعداد لضمان أمن «إسرائيل». ولبنان في السياق المذكور يعتبر حلقة ضعيفة في سلسلة الأولويات الإسرائيلية؛ لأنه لا يقدم ولا يؤخر في مضمار انكشفت خلاله ساحته سواءٌ إبان عدوان الصيف أو خلال الاستنزاف الذي بدأ يواجهه على ضفاف «نهر البارد».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1739 - الأحد 10 يونيو 2007م الموافق 24 جمادى الأولى 1428هـ