جاءت غالبية ملاحظات القراء الأعزاء بشأن ما طرحته وطرحه الزميل محمد العثمان بخصوص البرنامج السياسي المجير طائفيا لقناة (CNN) الأميركية حول قضية الفقر في البحرين في نطاق المعتاد والمتوقع، بكونها قد اشتملت على الاعتراف بأن قضية الفقر هي قضية وطنية يعاني منها غالبية أبناء الشعب البحريني من دون أن تكون شأنا خاصا وحكرا على أبناء طائفة معينة دون غيرها، كما أن هذه الردود العقلانية المتفهمة لمقاصدنا من طرح هذه القضية الوطنية الكبرى حملت أبناء أهل السنة والجماعة عبء سكوتهم عن ملف الفقر الساخن في أوساطهم ما أدى إلى سهولة تطييفه، وتحمل عناء السكوت عن آلام هذا الجرح النازف المتسع الذي أصبح جحرا يلوذ به اللائذون بعيدا عن الأمل والحلم بنيل حقوقهم ومطالبهم المشروعة بدلا من النهوض مع سائر أبناء وقوى الوطن في تبني مختلف الوسائل السلمية والمدنية المشروعة لرفع المطالب السلمية التي لا تعتبر جنحة وجناية وتمردا يهز نظام الحكم ويزعزع أمنه واستقراره!
فوجود التحرك الشعبي السلمي في صفوف أهل السنة والجماعة الرامي لتوحيد الجهود تحت راية المصلحة الوطنية العامة لفتح ملف الفقر ومطالب تحسين الأوضاع المعيشية والعدالة في توزيع الثروات ومحاربة الفساد والتمييز بلا شك سيعيد جزءا كبيرا من الاعتبار الوطني المفقود لهذه القضية الكبرى التي يقع تحت ضررها غالبية أبناء الشعب بغض النظر عن طوائفهم وانتماءاتهم، وهي التي تزداد تعقدا وسوء بحسب تغيرات الظروف التاريخية الدولية، إلا أنه وبنظري ما يحول دون ذلك بالنسبة للوضع المحلي هو انعكاس الأبعاد التاريخية الإقليمية بسمومها الطائفية بشكل مدمر متضافرة مع استراتيجيات التشطير العمودي للمجتمع على أسس طائفية، كما تلعب النخبة «الدينوسياسية» السنية السائدة دورا قويا في رفد تلك السلبية وتغذية الرغبة لدى العناصر الاجتماعية لتفضيل خيار الارتماء في أحضان الدولة ومحاولة التماهي معها إلى حد ضياع الهوية المجتمعية السياسية المستقلة والمحايدة في مقابل خيار مزاولة العمل الاجتماعي الأهلي أو المدني تحت راية وطنية جامعة وإنما تحت إمرة لواء وفيالق «الغونغو» المشبوهة، فلا يحق لهم أبدا حسب أعراف اجتماعنا السياسي المحلي مد أياديهم لإخوتهم من الطائفة الشيعية الكريمة لتكريس وحدة المطالب الشعبية الوطنية!
هذه السلبية والتراجعية والاستزلامية والاعتزالية الوطنية استشرت في صفوف أهل السنة والجماعة أخيرا مع ازدياد النفوذ الشعبي لنجومية الحركات الإسلامية السياسية بخصوصيتها النخبوية المحلية وشذوذها في الممارسات والمواقف المبدئية تجاه قضايا الدولة والمجتمع ككل عن التيارات الإسلامية السياسية الأم في الحواضر العربية الكبرى!
في حين أن هذه السلبيات والانهزاميات والقدريات الزائفة كانت، وإنصافا للتاريخ،شبه مضمحلة في المناطق المفتوحة والمختلطة كالمحرق والمنامة أثناء النفوذ الجماهيري للتيارات اليسارية والقومية الوطنية، وخصوصا في أيام هيئة الاتحاد الوطني التي لا ينكر أي مطلع على التاريخ دورها الريادي والقيادي في توحيد ورص الشارع الشعبي البحريني وطنيا تحت مطالب موحدة وإن كان لها منذ ذاك الزمن أعداء مازالوا يواصلون مسيرتهم مشيا على حبال المصالح الضيقة على حساب المصلحة الوطنية العليا!
هذه النخب «الدينوسياسية» راوغت بانتهازيتها الفجة على حساب المبادئ، وبفكرها الطارئ المستورد سياسيا قامت بتسطيح الوعي واجتثاث الحس النقدي، والتحذير والتخويف من عواقب «النزوات الوطنية» المهلكة، ولم يتسن لها إلا استغلال فجوات الوعي الجمعي الكبرى، وبخدمة ومعونة ظروف إقليمية ومحلية مساعدة أتاحت لها الفرصة للتلاعب بمفردات وأدوات السياسة الشرعية المستغلة بشكل سيئ يخرج عن مقاصدها الأصلية السليمة نحو مقاصد سياسية ومصلحية ضيقة تتواطأ على مطالب الشعب المشروعة!
فبناء على ذلك التحريف أصبح الاختلاف الوارد مع ولي الأمر، والنقد البناء لأداء الدولة والحكومة بمثابة خروج على الدين والملة وثوابتها ومدعاة للفتن وتضييعا للوطن، في حين أن أولياء الأمر لا يمانعون توجيه النقد والمناصحة والشكوى على المظالم ويعلنون في الصحف ترحيبهم بها!
كما أنه لم يتسن لهذه النخبة «الدينوسياسية» البائسة، والتي لا تستحق مثل هذا الحجم من المسئولية والحظوة والحفاوة، في أن تقوم بنشر هذه الدعاوى «الطوطمية» الفكرية المتجددة من سابق العصور إلا من خلال استغلال ظروف التمزق والشتات في الوسط الاجتماعي السني أصلا قبل الوسط الاجتماعي الوطني من خلال تلاشي وجود القيادات الوطنية الأصيلة، وانصراف كل فرد وعائلة وجماعة نحو الاهتمام بالمصالح الخاصة والمصالح الفئوية الضيقة وتغليبها على المصلحة العامة والمصلحة الوطنية العليا في ألعاب تقاسم السطوة التمثيلية والتلاعب بالنفوذ في ضمان أكبر عدد معين من الوظائف الكبرى لفئة وتنظيم متصاهر دون غيره سواء أكان من أبناء «الجماعة» أم أبناء الوطن، وهذه معضلة أخرى كبرى يحلها الانتماء الطائفي قبل حل الانتماء الوطني في نظر البعض!
أذكر أنني وفي حوار مع أحدهم ممن حل عليّ بغتة في هيئة رجل دين، وقد تناول الحوار العقيم عددا من الموضوعات التي تهم المواطن والتي من بينها الفقر والعوز والفاقة التي يعاني منها المواطنون في البلاد سنة وشيعة بسبب «السياسات الرشيدة» وغيرها من أسباب، فاستنكر عليّ «رجل الدين» ذلك بشدة، وأكد لي بأن الفقر هو سنة فطرية في سائر المجتمعات البشرية ولا علاقة له بمظلمة وتقصير وغيره، وهو ابتلاء من الله لا بد من تحمله والصبر عليه إلى موعد الفرج، فرددت عليه بأن هذا لا يعني إهمال الأسباب والممكنات الواقعية الملموسة والسكوت عنها أو تجاهل حجم المشكلة وتعليقها دون حل، أو الاكتفاء بتوزيع «خياش عيش» و»علب دهن» موسميا باعتبارها زكاة انتخابية وهي بلا شك لا تحل مشكلة الفقر، والتي هي في الأساس معضلة بنيوية مستمرة في الاستشراء والتورم مرضيا لعوامل سياسية واقتصادية لا تخفى على عاقل!
وإن كنا نؤمن بسنن الله في خلقه وابتلائه لهم، ونؤمن بالقضاء والقدر، فهذا لا يعني أن نصمت عن هذه القضية ونغفل عن مخاطرها، فلطالما سبق وأن حذرنا الرسول الأكرم (ص) والصحابة (رضوان الله عليهم أجمعين) من الفقر ومآسيه، فقال الرسول (ص): «يكاد الفقر أن يكون كفرا»، وكان (ص) يتعوذ دائما من الفقر الذي يقرنه بالكفر قائلا : «اللهم إني أعوذ بك من الكفر، وأعوذ بك من الفقر» ، كما أنه يشير إلى فريضة الزكاة ودورها الاجتماعي في معالجة الفقر الذي لن يكون وبالا إلا بسبب الأغنياء وتعطيلهم لأداء هذه الفريضة الواجبة فيقول: «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم «فأين البعض من أغنياء ومتنفذي المجتمع من تأدية هذه الفريضة؟!
وأين رجال الدين والناطقين باسمه من أمثال هذه النخبة البائسة من محاسبة من يعطل هذه الفريضة التي تسبب تعطيلها بحروب الردة في زمن الخليفة أبوبكر الصديق (رض)؟!
وكما قال الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه): «لو كان الفقر رجلا لقتلته»؟، وقال الصحابي أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه): «عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه؟»، وجميعهم قرنوا الفقر بالكفر وتعوذوا منهما ودعوا لمحاربته وحله بشتى الوسائل المتاحة، فهل الكفر قرين الفقر يعد أيضا في نظر النخبة السياسية - الشرعية البائسة الطارئة بمثابة سنة من سنن الله في خلقه ولا بد من القبول والتسليم به؟!
وهل سيكون الرسول (ص) وصحابته بحسب تلك الأحاديث والأقوال المأثورة هم قوم لا يؤمنون بالقضاء والقدر وبسنن الله في خلقه، والعياذ بالله، وذلك في نظر بعض مشايخ زمن التردي و الانحلال؟!
وفي الوقت الذي يقول فيه أبو بكر الصديق (رضي الله عنه): «إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني» ويشرع لوجوب مراقبته ومحاسبته وتقويمه، نرى من يستنكر على الخلائق استجواب وزير من الوزراء برلمانيا ويبغض مساءلته، ويغفل أن هذا الوزير مهما بلغ من عطاء وصلاح وعفة أخلاقية مصونة حسب كلام المعترضين والممانعين فإنه لن يرقى أبدا إلى مكانة سيدنا أبو بكر الصديق الذي دعا الناس إلى محاسبته وتقويمه، فهو الذي قال فيه الرسول (ص) «لو وضع إيمان الأمة في كفة و إيمان أبوبكر في كفة لرجحت كفة أبوبكر».
فمتى ينفض غالبية أهل السنة والجماعة عن أنفسهم غبار النخب الدينوسياسية البائسة، ويزيلوا من الساحة أقذار المرتزقة وبعض المتمشيخين المتمصلحين ممن دأبوا على تسطيح الوعي بكل تلاوينه الاجتماعية اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وإلجام أصوات الحق الداعية إلى الانضواء تحت المصلحة الوطنية العامة؟!
يبقى الأمر رهن أيديهم إذا لم يصبح الفقر فكرا ولم يبدل ويحرف الدين سياسيا عن مقاصده ومضامينه الشرعية السامية!
- الطوطم: هو اسم لأي شيء رمزي سواء أكان نباتا أو حيوانا يتم انتقاء قدسيته كوثن.
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1739 - الأحد 10 يونيو 2007م الموافق 24 جمادى الأولى 1428هـ