قد تشكّل ظروف خارجة عن سيطرة الإنسان خياراته الحياتية وتحدد إمكاناته، ولكن يجب ألا يقع الإنسان أبدا ضحية لا حول لها ولا قوة للقدر.
هذه ملاحظة أبديها، جزئيا، ردا على صور العنف الرهيبة التي تقع في لبنان وغزة. يمكن رؤية كل منها من منظور انعدام السلام وتحقيق العدل، والفشل في حل مشكلات المنطقة المتفاعلة منذ زمن بعيد. ولكن على رغم أن بعض الجراح يجرى التسبب بها على الغير فإن جراحا أخرى هي ذاتية. لذا وبينما نشير بأصابع الاتهام في اتجاهات مختلفة، يتوجب أن تكون الإشارة داخليا بالنسبة إلى الفلسطينيين واللبنانيين.
ليس هناك أدنى شك، على سبيل المثال، أن «إسرائيل» تتحمل مسئولية كبيرة لأزمة غزة القائمة منذ مدة بعيدة. وكما أشارت عالمة البحوث الرئيسية في مركز جامعة هارفارد لدراسات الشرق الأوسط، سارة روي، قامت «إسرائيل» متعمدة خلال السنوات الخمس والعشرين الأولى من الاحتلال بوقف تطوير قطاع غزة المكتظ تاركة إياه فقيرا معتمدا على الغير. في تلك الفترة كان مصدر دخل غزة الرئيسي هو العمالة اليومية في أسفل درجات الاقتصاد الإسرائيلي. أثناء معظم تسعينات القرن الماضي، اختفى هذا المصدر للدخل أيضا. ثم جاء الانسحاب الإسرائيلي من طرف واحد.لأن «إسرائيل» رفضت التفاوض عن انسحابها الأحادي الجانب مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (الأمر الذي كان يمكن أن يدعم سلطة عباس في القطاع)، ولأنها رفضت احترام حتى الاتفاق الذي تم التفاوض عليه مع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، والتي كانت ستسمح لغزة بالقيام بعمليات الاستيراد والتصدير بعد الانسحاب، ولأنها قامت بخنق سبل الدخول والخروج إلى القطاع، فإن «إسرائيل» تركت غزة معسكرا من الفقر والغضب، بينما بدأ نجم حماس بالصعود.
هذا صحيح حتى الآن. إلا أن حماس كانت تملك خيارات، ولكنها اختارت بشكل سيئ. بعد فوزها بالانتخابات التشريعية في يناير/ كانون الثاني 2006، كان عليها واجب التصرف بمسئولية. فبدلا من لجم العنف سمحت له بالاستمرار، وبدلا من تقييم ميزان القوة واحتساب احتياجات شعبها وبدء مسيرة سياسية نحو التمكين، حافظت بعناد على موقف مقاومة رافض قد يليق بحزب معارضة ولكنه لا يليق بحكومة.
نتيجة لذلك خسرت الدعم والمعونة الدولية التي هي في أمس الحاجة إليها وبددت ثمار نصرها.
على رغم دروس التاريخ بعدم الدخول في صراع لا أمل لك بالفوز به، واظبت حماس على طريق الإثارة والتحدي، مضيفة إلى الصعوبات غير المحتملة التي عاشها الشعب الفلسطيني والتي عانت فيها غزة أكثر من الجميع.
لا يبرر أي من هذه الأخطاء الفادحة الأعمال الإسرائيلية أو يغفر وحشيتها غير المبررة. ولكن فشل حماس لا يمكن أن نغفر له كذلك.
لن ينتج عن هذه الحرب الضَروس المتمثلة بإطلاق صواريخ القسام «المضحكة» لاستثارة الرد الإسرائيلي أي أمر جيد. تماما مثلما خرّب العنف اتفاقات أوسلو وإعلان بيروت العام 2002، ها هو مرة أخرى يهدد بإعطاء «إسرائيل» الموقف الأقوى في الدوائر الدبلوماسية مبررا لعدم صنع السلام.
الخيارات الفاعلة الوحيدة الآن هي العودة إلى اتفاق مكة، والاستغناء عن الأسلحة الانتحارية في «المقاومة» وتمكين الرئاسة الفلسطينية لاستعادة ما خسرته نيابة عن الأمة بأكملها.
ليس الوضع في لبنان بحال أفضل أو أقل خطرا، فحال الشلل التي أقعدت العملية السياسية للدولة كان لها أبلغ الأثر.
مازال حزب الله يدّعي أنه ربح حرب الصيف الماضي المُكلِفة. «إسرائيل» طبعا لم تربح تلك الحرب. تدميرها الوحشي وبكل غباء للبنية الأساسية المدنية في لبنان لم يعد عليها بأية فائدة. ولكن أين هو فوز حزب الله بعد مقتل أكثر من ألف شخص وأضرار وخسائر بلغت مليارات الدولارات؟ هل انحدرنا إلى مستويات تجعل الوضع يبدو مرتفعا؟
أضف إلى ذلك حال الجمود السياسي التي تهدد بتعميق الفجوة في مجتمع مصاب بالتفكك والصدوع أصلا.
سيتطلب السلام والأمن والمصالحة الوطنية في لبنان معادلة سياسية جديدة توفر فرصا أفضل للتعددية الشيعية. ولكن هل يتوجب أن يأتي ذلك على حساب الفشل في معاقبة الذين اغتالوا رفيق الحريري وكثيرين غيرهم؟
إغلاق قلب العاصمة وتخريب جهود إعادة الإعمار وتعميق الهوة السياسية ليست ردودا مناسبة أو بحجم قضية هي في الأساس سياسية، بحيث يُتعرض مستقبل المؤسسات الديمقراطية الوطنية للخطر. يفرض التصرف المسئول مسارا مختلفا، هو مسار الحوار والحلول الوسط للوصول إلى المصالحة الوطنية.
أما فيما يتعلق بالحوادث الرهيبة التي نراها في مخيم نهر البارد فهناك الكثير مما يجب قوله. لا يمكن لأي مجتمع بالتأكيد أن يتحمل السلوك الإجرامي والتهديد الذي يشكله تنظيم «فتح الإسلام»، وهناك الكثير من اللوم المشترك في هذا المجال. فالوضع في مخيمات اللاجئين في لبنان رهيب في الحقيقة والواقع. بعد أربعة أجيال منذ القدوم إلى لبنان مازال الفلسطينيون يجدون أنفسهم غير مرحّب بهم ويعيشون بيأس وفقر مدقع.
رفض لبنان تقديم حتى أكثر الحقوق والخدمات أساسية لهؤلاء الفلسطينيين يبقى وصمة عار على جبين هذا البلد.
المخيمات التي أُهمِلَت أصبحت أرضا خصبة لإنتاج الحركات المتطرفة العنفية التي نشأت على الغضب واليأس والضعف.
وعلى رغم أن الجيش اللبناني يملك الحق في الدفاع عن نفسه وعن أمن بلده، إلا أن هجمته على المخيمات خلال الأيام القليلة الماضية كانت عنيفة بشكل غير مبرر ومن دون تمييز. هل سينتج عن ذلك أي أمر جيد
ويتحمل اللاعبون الخارجيون بعض المسئولية؟ بالتأكيد يجب تحميل الولايات المتحدة و»إسرائيل» وإيران مسئولية رؤية فرصة لإنهاء الطموحات الإقليمية من خلال رؤية الأوضاع المتدهورة في فلسطين ولبنان. كما يتوجب على اللاعبين المسئولين في المجتمع الفلسطيني أن يضغطوا باتجاه سيطرة أكبر، ويتوجب على الجيش اللبناني أن يتصرف بحذر أكبر.
ومن الضروري على المدى القصير اتخاذ توجه أكثر انضباطا وإنسانية بهدف استئصال المجموعات المتطرفة. أما على المدى البعيد فيتوجب على لبنان إعادة تقييم معاملتها للفلسطينيين داخل حدودها. لن تحل عملية إعادة التقييم الذاتي، هذه مشكلة اللاجئين أو تنهي الاحتلال وتعيد الحقوق المسلوبة ولكنها يمكن أن تساعد على ترتيب البيت اللبناني وتجنب كوارث مستقبلية.
قد يكون اللبنانيون والفلسطينيون، في غزة ولبنان، قد وقعوا في شرك حرب خارجة عن سيطرتهم. ولكن على رغم ذلك يتوجب عليهم عدم إلقاء اللوم على بعضهم بعضا أو أن يقودوا أنفسهم إلى الفناء الذاتي.
*مؤسس ورئيس المعهد العربي الأميركي، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1739 - الأحد 10 يونيو 2007م الموافق 24 جمادى الأولى 1428هـ