لست مقتنعا بأن الزعل الرسمي البحريني - المخفي والمكشوف - على البرنامج الذي بثته شبكة الـ CNN الأميركية عن واقع الفقر في البحرين ينحصر في هذا البرنامج، بل من السذاجة أن نفسر كل هذا الاستنفار الرسمي بهذا التفسير السطحي.
فالـ CNN ليست هي من أكتشف الفقر في البحرين، ومن حق الحكومة أن تستغرب هذه الدمعة الأميركية المتأخرة على فقراء البحرين، لذلك فردود الفعل الرسمية كانت ذات وقع عالٍ، فالقناة الأميركية ليست مشروعا خيريا ولا هي منظمة إنسانية أو مؤسسة دولية تعنى بالبيئة، فهي الشبكة الأكثر تأثيرا في داخل الولايات المتحدة وخارجها، ولها تأثير مباشر على صانع القرار في البيت الأبيض.
إن انزعاج الحكومة من البرنامج جزء منه مبرر قطعا، ونشاطرها فيه أيضا حين تركز القناة بشكل مسهب على إعطاء صبغة مذهبية للفقر في البحرين، وهو أمر مستهجن لدى غالبية البحرينيين، ولكن الجزء الآخر من انزعاج الحكومة طبيعي حتى وإن كنا لا نبرره لها، لأن الـ CNN أظهرت بحرينا أخرى غير البحرين التي تحرص الحكومة على إظهارها للرأي العام الدولي وخصوصا الأميركي.
وعلى أي حال فإن هذا الزعل البحريني الذي أفضل تسميته بـ «العتاب القاسي»، شغل كل هذا الحيز، لأنه صادر من حليف استراتيجي للبحرين، والتقرير التلفزيوني ليس الأول، فهناك تقارير كثيرة تصدرها واشنطن ولا تروق للبحرين، ومنها تلك المتعلقة بالتقارير السنوية الراصدة لأوضاع حقوق الإنسان والتي تصدرها الخارجية الأميركية سنويا.
كما لم تخف الحكومة غضبها من حركة النشطاء السياسيين في الخارج، ومنها الندوات التي يقيمها الناشطون في مجلس اللوردات البريطاني أو الكونغرس الأميركي وفي قاعات مراكز الأبحاث في البلدين، والسبب ليس نابعا من خوف الحكومة من قدرة هذه التحركات على التأثير، لكنها تخشى التشويش - ولو كان قليلا - على الماكنة الإعلامية الرسمية الموجهة للخارج التي تصرف من أجلها ملايين الدولارات.
فالحكومة - على سبيل المثال لا الحصر- تحرص على أن تبعث وزير الإعلام سنويا ليجوب الولايات المتحدة شرقا وغربا لتسويق ما هو موجود في البحرين، ليقلل من مشاكسة بعض الفضوليين (وفق التصنيف الرسمي)، وأبلغ شاهد هو تسابق الوزير على الظهور في كبرى محطات التلفزة المؤثرة في أميركا.
والبحرين تصرف أيضا الملايين على بعض مراكز البحوث، وتحديدا في عاصمة الضباب(لندن)، وهذه المراكز يشرف عليها باحثون عرب ممن يجيدون التطبيل المدفوع، وكان لها دور محوري إبان انتفاضة التسعينات لمواجهة الأنشطة النوعية التي كانت تنظمها المعارضة البحرينية آنذاك، والتي كان يتعاطف معها جزء مهم من النخب المؤثرة في المملكة المتحدة.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن السياسة الخارجية للبحرين نشطة جدا، إلى درجة أن المنامة تتهم أحيانا كثيرة بأنها تريد أن تلعب دورا أكبر من حجمها، فهي من الدول العربية القلائل التي استطاعت أن تحوز على عضوية مجلس الأمن الدولي في فترة كانت حرجة جدا، كما استطاعت أن تشغل مقعدا في المجلس الدولي لحقوق الإنسان الذي جاء كصيغة مطورة للجنة الدولية لحقوق الإنسان على رغم أن البحرين ليست من الدول الخارقة في السجل الحقوقي. وكانت المفاجأة أن تحصل البحرين بالإجماع على رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهذا الدور الذي كانت تكاد تنفرد به البحرين أصبح اليوم محل تنافس من دول خليجية أخرى كقطر مثلا.
الاهتمام التسويقي الرسمي لما يجري في الداخل وإن كان موجها للغرب في الأساس، فإنه لا يستثني الرأي العام العربي وخصوصا الرسمي، فالمملكة نجحت في شغل لقب الدولة العربية الأولى في التنمية البشرية في التقرير الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وكل هذه الألقاب تعكس قوة الماكنة الرسمية، ويحرص كبار المسئولين على إجراء حوارات - مدفوعة أحيانا - مع الصحافة العربية والدولية.
وإذا أدركنا كل ذلك فسنستطيع حينها أن نفك شفرة الغضب الرسمي من الـ CNN، فمن الواضح أن الحكومة لم ولن تسمح بأن يشاطرها أحد في الداخل - من القوى السياسية والحقوقية - في تقاسم شيء من كعكة العلاقة مع العالم الخارجي، وفي مقدمتها واشنطن، ولربما استفادت الحكومة من التناقضات الكثيرة بين أيديولوجيا بعض المكونات البحرينية وسلوكها الواقعي في العلاقة مع الولايات المتحدة كمفردة «الشيطان الأكبر» وشعار «الموت لأميركا» وما على شاكلتها من أدبيات في التراث العقائدي.
وفي قبالة النجاح الحكومي نجد النشاط الخارجي للقوى السياسية البحرينية - المعارضة تحديدا - يكاد يكون صفرا على رغم أهميته في رسم صورة أخرى تعيد التوازن على إحداثية نقطة الارتكاز في العلاقة مع الخارج، وهذا الملف كان يشغل بال الحكومة كثيرا إلى أن أخترع بعض مستشاروها العرب حلا خارقا، من خلال قانون الجمعيات السياسية الذي هو نسخة معدلة من «تشريعات ديمقراطيات الطوارئ» في عواصم العروبة، وهذا القانون حظر على القوى السياسية أي نوعٍ من الاتصال بالخارج إلا بعد «تكرم» الوزير المسئول بالموافقة أو الرفض.
وكل من يعرف شيئا عن توازنات المعادلة القائمة، فإنه بالتأكيد سيردد معي «الحكومة معذورة في غضبها»!
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 1738 - السبت 09 يونيو 2007م الموافق 23 جمادى الأولى 1428هـ