استعرض المقالان السابقان موضوع الاعتبارات التشريعية والتشريعات المائية في الإسلام باعتبارها من أكثر العناصر أهمية في عملية تخطيط وإدارة الموارد المائية الجوفية، وتبين أن هذه الاعتبارات لم تحظ بالاهتمام الكافي في عملية تخطيط وإدارة المياه الجوفية في دول مجلس التعاون، وبأن التشريعات الحالية مجزأة وليست ضمن إطار تشريعي شامل ومتكامل في هذه الدول، وبأن غالبيتها غير مطبق. وانتهى المقال الأخير إلى أن هناك حاجة لتحديث التشريعات المائية في دول مجلس التعاون لتصبح تشريعات شاملة ومتكاملة لرفع مستوى وكفاءة إدارة المياه الجوفية في دول المجلس، واعتبار المياه الجوفية «ثروة وطنية» وإدارتها على أنها «سلعة عامة»، ما يتطلب استرجاع ملكية المياه الجوفية من أصحاب الأراضي، ومن ثم مراجعة حقوق استخدام هذه المياه بناء على مجموعة من المعايير، من أهمها عدم تجاوز طاقة المياه الجوفية بما يؤدي إلى تدهورها، والاستخدام الكفء والمفيد لهذه المياه بحيث لا يتم هدرها أو بيعها بعد الحصول على حق استخدامها، مع إعطاء أولوية استخدام المياه لملاك الأراضي القائمة حاليا، ولكن النظر في وضع التعرفة المناسبة لاستخدام هذه المياه، ليس بهدف استدامة الموارد المائية فحسب بل لزيادة كفاءة استخدامها.
وتأتي الاعتبارات الاقتصادية مكملة للاعتبارات التشريعية في عملية تخطيط وإدارة الموارد المائية الجوفية، وكمحفز لرفع كفاءة استخدام المياه الجوفية واستدامتها لخدمة المجتمعات الخليجية، وخصوصا أن القيمة الاقتصادية للمياه الجوفية في تزايد مستمر في هذه الدول، وذلك للكثير من الأسباب من أهمها الزيادة السكانية والتنمية الاقتصادية والطلب على الغذاء ما ينتج عن ذلك من زيادة في الطلب والتنافس عليها، وتقلص الكميات المتاحة للاستثمار منها بسبب استنزافها وتلوثها مؤديا ذلك إلى زيادة ندرتها في المنطقة، بالإضافة إلى الحاجة المتزايدة لها كمخزون استراتيجي لحالات الطوارئ في هذه الدول.
والمقصود بالاعتبارات الاقتصادية تحديدا هو استخدام القيمة الاقتصادية للمياه الجوفية في توزيع حصص المياه الجوفية واستخداماتها لتعظيم المنفعة منها، وتطبيق الأدوات الاقتصادية لتحفيز المستهلك على المحافظة عليها والابتعاد عن الهدر والإسراف في استخدامها لزيادة درجة استدامتها. وهنا يبرز مبدأ اقتصادي مهم وهو قيمة المياه الجوفية للمجتمع، والذي ينبع من المنافع التي تنتج عنها، أو بمعنى آخر الخدمات التي تقدمها له. وتعتمد هذه القيمة على المستخدم وكيفية استخدامه لهذه المياه، أي القيمة التي تعطيها هذه المياه للمستخدم، ومساهمتها في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، وتشمل كذلك الوظائف البيئية والجمالية والروحية وغيرها من القيم غير المادية التي تقوم بها هذه المياه مباشرة أو بشكل غير مباشر (مثل خدمات ووظائف العيون الطبيعية والأفلاج) حاليا أو مستقبلا، بالإضافة إلى قيمة المياه الجوفية كأصول مملوكة للمجتمع ينبغي المحافظة عليها من الضياع للأجيال القادمة.
ومن وجهة النظر الاقتصادية فإن الكلفة الاقتصادية التي تتحملها الدولة/المجتمع من استخدام المياه الحالية يمكن تقسيمها إلى ثلاث كلف رئيسية، الأولى تسمى بكلف إدارة وتزويد المياه الجوفيةmanagement and supply cost، وهي المصاريف الإدارية التي تتحملها الدولة (أي كلفة الجهاز المسئول عن المياه الجوفية على الدولة)، وإذا كانت هذه الأجهزة الحكومية مسئولة عن تزويد المياه للمستخدمين في القطاع الزراعي أو البلدي فستشمل هذه الكلفة أيضا الكلف الإنشائية والتشغيل والصيانة لذلك، والثانية هي كلفة الفرصة الاجتماعية social opportunity cost، وهي كلفة الفرص البديلة الضائعة من استخدام المياه الحالية والمستقبلية، والثالثة هي كلف الخارجيات externalities، وهي كلفة تدهور المورد وكلفة خسارة البيئات التي تعتمد على المياه، وخسارته كمخزون استراتيجي لحالات الطوارئ، وغيرها من الآثار الخارجية المترتبة على ذلك.
كما تتميز المياه الجوفية ببعض الخواص الفريدة التي يجب أخذها في الاعتبار عند النظر في الاعتبارات الاقتصادية لها، ومن أهمها أن استخدام هذه الموارد هو لا مركزي بطبيعته، أي منتشر مكانيا بشكل واسع بانتشار المورد المائي الجوفي نفسه، ما يزيد من كلف إدارة هذه الموارد ومراقبتها، وأن هذه الموارد غير منظورة موجودة أسفل الأرض عن العامة والمستخدمين، الأمر الذي يؤدي إلى عدم الفهم الواضح لخصائصها وديناميكيتها، واعتبارها موارد مشاعة لاتنضب، وصعوبة التعامل مع المستخدمين لها وإقناعهم بقيمتها الاقتصادية الحقيقية، وبأن الفترة ما بين استنزافها وظهور تأثيرات هذا الاستنزاف من هبوط المستويات المائية وتملحها هي تدريجية وتعتبر طويلة نسبيا، وأنه في الكثير من الأحيان تكون عملية تأهيل المياه الجوفية بعد استنزافها أو تعرضها للتلوث شبه مستحيلة ومكلفة جدا.
وقد يكون لهذه السمات المذكورة أعلاه السبب في تقييم المياه الجوفية بصورة متدنية جدا في دول المجلس، وحصول المستخدم لها على جميع منافع استخدامها بشكل شبه مجاني أو عن طريق دفع جزء بسيط جدا من قيمتها أو كلفتها الاقتصادية الحقيقية، والذي لا يتعدى رسوم إصدار رخصة حفر بئر للمياه، هذا إن وجدت هذه الرسوم، بل وفي بعض الأحيان تقوم الدولة بحفر الآبار مجانا أو مقابل رسوم بسيطة جدا وكأنها تشجع حفر الآبار! والأخطر من ذلك السماح لأصحاب الآبار بالاستفادة منها بالشكل الذي يريدون سواء كان ذلك لصالح المجتمع أم لا، واستغلالها بشكل جائر من دون دفع ثمنها الحقيقي أو ثمن تدهورها للمجتمع الذي يمتلكها في الأساس.
ولذلك فإنه لابد لدول مجلس التعاون من النظر بجدية في استخدام بعض الأدوات الاقتصادية لتحسين إدارة المياه الجوفية فيها، ليس بهدف استرجاع بعض من الكلف الحقيقية لهذه الموارد فقط، وإنما، وهذا الأهم، لتحفيز المستخدمين لها على رفع كفاءة استخدامهم لهذه المياه والاستفادة منها بكفاءة في مشروعات ذات قيمة ومردود عاليين، بدلا من الاستخدامات الحالية ذات القيمة المنخفضة، التي تؤدي بدورها إلى استنزاف هذه المياه. وسيتطرق المقال المقبل للأدوات الاقتصادية المتاحة لدول المجلس لتنظيم استخدام المياه الجوفية فيها، وخصوصا في القطاع الزراعي الذي يستحوذ على نصيب الأسد منها.
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1738 - السبت 09 يونيو 2007م الموافق 23 جمادى الأولى 1428هـ