العدد 1737 - الجمعة 08 يونيو 2007م الموافق 22 جمادى الأولى 1428هـ

عبدالناصر... وخطاب الهزيمة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قبل ساعات من نهاية حرب يونيو/ حزيران 1967 ظهر الرئيس المصري جمال عبدالناصر على شاشات التلفزة ليعلن أمام الجمهور العربي أخبار الهزيمة. في تلك اللحظات تسمرت العيون وتحجرت. فالناس كانت تنتظر لحظة التحرير فإذا بها تسمع روايات أخذت الإذاعات ووكالات الأبناء تتناقلها عن تقدم الجيش الإسرائيلي ونجاحه في اختراق ثلاث جهات دفعة واحدة وانتشاره في أراضٍ شاسعة من سيناء على جهة مصر إلى القدس والضفة على جبهة الأردن وانتهاء بالجولان على جبهة سورية.

كانت اللحظات قاسية ولم يكن الجمهور العربي المستمع في وضع نفسي يسمح له بتصديقها. ولكن الواقع كان يشير إلى انكسار عربي جديد يطيح بكل تلك التوقعات والآمال التي راهن عليها منذ نكبة فلسطين في العام 1948.

أطل عبدالناصر في هذه الأجواء الحزينة وأعلن بوضوح «النكسة». فالرئيس المصري لم يناور ويكذب ويلتف حول الحقيقة. «أصبنا بنكسة» هكذا قال. ولم يتوقف عبدالناصر هنا بل أكمل خطابه والدموع في عينيه. وجاءت الكلمات لتشرح بإيجاز ما حصل.

خطاب النكسة أو التنحي أو تحمل المسئولية اشتمل على مجموعة عناصر جعلت الناس تتضامن مع «الرئيس» وتنزل إلى الشوارع غاضبة وفي الآن رافضة الاستقالة. فالرئيس اعترف بالخطأ (انتظرناهم من الشرق فجاءوا من الغرب). والرئيس أكد أن هذه المعركة ليست نهاية الحرب (لقد خسرنا معركة ولم نخسر الحربَ). والرئيس أشار إلى أن الأمة لن تخضع وتستسلم (ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة). والرئيس جدد التزامه العمل من أجل القضية والتحرير وإعادة الإعمار (إنها ساعة العمل وليست ساعة البكاء). والأهم أن الرئيس تحمّل المسئولية وانتقد نفسه وأعلن تنحيه لنائبه زكريا محيي الدين ليكمل المسيرة.

خطاب التنحي (أو النكسة) شكل منعطفا في الثقافة العربية الرسمية آنذاك. والجمهور العربي تعاطى مع الخطاب بروح مسئولة معطوفة على وعي متقدم التقط في تلك اللحظات الصعبة مفارقة قاسية انتظرها طويلا ولم يتوقعها يوما ما أن تصدر عن هذا الرئيس الشاب الأسمر الذي جذب الجماهير من المحيط إلى الخليج.

رفض الجمهور الاستقالة ونزل إلى الشوارع يطالب الرئيس بالعودة وإعادة البناء والبدء من جديد في المسيرة. وشكّل الاجماع العربي نقطة قوة دفعت بعبد الناصر إلى التراجع عن استقالته.

آنذاك كانت ردة فعل الجمهور واعية وصادقة وحقيقية. فهو لم يتوقع من الرئيس الاعتراف بالخطأ والاعتذار والنقد الذاتي والاستقالة. فالثقافة الرسمية السائدة في تلك الأيام كانت تقوم على فكرة اتهام العدو بالمؤامرة أو اختراع التبريرات للتهرب من المسئولية أو إطلاق المزيد من الوعود تهربا من الاعتراف بالتقصير.

جاء خطاب التنحي ليشير إلى وجود نوع من محاولة تأسيس ثقافة مغايرة للسائد. وهذا الاختلاف في التعامل مع الواقع وفي التخاطب مع الجمهور وفي قول الوقائع من دون تردد أو مجاملة دفع الناس إلى التمسك بقيادة عبدالناصر باعتبارها دخلت في تجربة مرّة ولعلها قد تستفيد من دروسها وعبرها لإعادة تشكيل رؤية أكثر عقلانية وموضوعية وواقعية في سياسة المواجهة مع الولايات المتحدة وتلك الدولية «إسرائيل».

المقلب الآخر

في المقلب الآخر حصل العكس على الجبهة السورية. فالنظام «الطفولي اليساري» الحاكم آنذاك قرر التمسك بثقافة الخداع والنفاق والتزوير والالتفاف حول الحقائق. وبكل بساطة أعلنت إذاعة دمشق الانتصار لأن «العدو فشل في تحقيق أهدافه». فالهدف برأي تلك الزمرة لم يكن احتلال الجولان وكسر الجيش وإهانة الناس وإذلالهم وإنما كان قصد العدو من الحرب هو «إسقاط النظام التقدمي في سورية»، وبما أن النظام لم يسقط فهذا يعني أن سورية انتصرت لأنها منعت العدو من تحقيق هذا الهدف.

لم يقتصر الكذب على هذا المستوى من التبرير بل بلغ الانحطاط السياسي درجة غير مسبوقة من الوقاحة إذ أخذت إذاعة دمشق تبث الاغاني والأهازيج والزغاريد والخطب الحماسية وبرقيات التهاني التي تبارك القيادة بهذا الإنجاز التاريخي. «سورية انتصرت وفشل العدو في تحقيق أهدافه» وشكل هذا الإيجاز للهزيمة مناسبة لإطلاق أغنية مطلعها «ميراج طيارك هرب مهزوم من نسر العرب». «ميراج» في العام 1967 كانت تشكل العمود الفقري لسلاح الجو الإسرائيلي، فهي طائرة حربية فرنسية اعتمدت عليها تل أبيب لتسجيل تلك الضربات وتحطيم المطارات والطائرات الرابضة على المدارج. إلا أن ثقافة الخداع التي اعتمدتها إذاعة دمشق أصرت على سياسة النفاق وتعديل الحقائق والكذب على الناس في محاولة لإقناع الجمهور العربي بأن ما حصل ليس هزيمة بدليل أن «النظام التقدمي» لم يسقط.

الكذبة كانت كبيرة وهي لا تحترم عقول الناس ولا تنطلي حتى على المجانين. ولكن إذاعة «النظام التقدمي» واصلت بث أغنية «ميراج طيارك هرب مهزوم من نسر العرب» إلى إن حصلت الحركة التصحيحية وأزاحت تلك الزمرة «اليسارية الطفولية» من الحكم وأخرست بث تلك الاغنية المثيرة للأعصاب واستبدلتها بلغة متواضعة تتعامل مع قواعد اللعبة الدولية بواقعيه وعقلانية.

هزيمة يونيو إذا كانت محطة تاريخية في حياة الجمهور العربي. فالناس قيض لهم مراقبة ردود فعل متباينة على مستوى التخاطب الرسمي مع الشارع تمثل آنذاك في ثقافتين: الأولى إيجابية ومتواضعة اعترفت بالخطأ وتحملت مسئولية الفشل وأعلنت عن استعدادها لإعادة البناء وتأسيس قوة تسترد بالقوة ما خسرته الأمة بالقوة. والثانية سلبية وفاجرة تمسكت بسياسة نشر ثقافة التزوير والنفاق والكذب والاحتيال والالتفاف حول الحقائق واختراع التبريرات بهدف تحويل الهزيمة إلى انتصار.

مال الجمهور العربي إلى ثقافة الاعتراف بالخطأ والنقد الذاتي معتبرا أن هذه الخطوة كافية للبدء في الانتقال من موقع إلى آخر. وهكذا كان. فعبد الناصر أعاد بناء الجيش وهيكل المؤسسات العسكرية وضبط الفوضى وخاض حرب استنزاف طويلة على خطوط قناة السويس. إلا أن تل أبيب واصلت استخدام «الميراج» التي تعززت بطائرة «الفانتوم» الأميركية الحديثة لضرب المراكز المدنية وقصف المجمعات السكنية في القاهرة وعمق الأراضي المصرية. وبسبب هذه الضغوط الجوية قرر عبدالناصر بناء حائط من الصواريخ (جو/جو) بمساعدة من السوفيات (الروس) وحتى يصل إلى هذا الهدف اضطر إلى الموافقة على خطة أميركية عرفت باسم «مشروع روجرز» تقضي بوقف حرب الاستنزاف على جبهة السويس تمهيدا لتطبيق القرار الدولي 242.

هذه الموافقة المرحلية لم تلق التجاوب من الزمر «اليسارية الطفولية» فاستغلت الأمر لشن حملة تشهير وتخوين لسياسة عبدالناصر وشخصيته ونظمت مظاهرات شتم وسباب ضده بذريعة التعامل مع الولايات المتحدة. حصل هذا الهجوم الإعلامي في العام 1970 وترافق مع حوادث الأردن الدامية في سبتمبر/ أيلول التي انتهت بوفاة عبدالناصر بعد دعوته إلى انعقاد قمة عربية لمعالجة الموقف المتدهور فلسطينيا وعربيا.

رحل عبدالناصر تاركا لخلفه أنور السادات خطة إعادة بناء القوات المسلحة تمهيدا للرد على الهزيمة. وبعد ثلاث سنوات على رحيله قام الجيش المصري بشن هجومه مخترقا «خط بارليف» في قناة السويس في وقت نجحت القوات السورية بعد أن تخلصت من زمرة «ميراج طيارك هرب» في استعادة الكرامة المنهارة في الجولان.

حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 مهما قيل عنها (حرب تحريك لا تحرير) أثمرت نتائج عسكرية إيجابية لم يحسن توظيفها سياسيا ولكن حققت الحد الأدنى من ذاك الخطاب التاريخي الذي ألقاه عبدالناصر عشية إعلان الهزيمة. فخطاب النكسة أو التنحي كان إشارة بدء نمو نوع من الثقافة النقدية التي قالت بوضوح: خسرنا معركة ولم نخسر الحرب.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1737 - الجمعة 08 يونيو 2007م الموافق 22 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً