تُصدر المصارف المركزية العملة وتمارس سلطة واسعة على تصرف السياسة النقدية. وعلى رغم انتشار هذه المصارف المركزية بشكل واسع في هذه الأيام، فإنها تُعتبر أنظمة مؤسسية جديدة نسبيا. ففي العام 1900 بلغ عدد المصارف المركزية في العالم 18 مصرفا فقط. وبحلول العام 1940، أصبحت لدى 40 دولة مصارف مركزية؛ أما اليوم فهناك 164.
قبل حدوث الزيادة في الصناعة المصرفية المركزية (القومية النقدية)، كانت مناطق أو كتل العملة الموحدة تهيمن على العالم، وكان أكبرها الكتلة الإسترلينية. لقد حذر كبير الاقتصاديين النمسوي فريدرك فون هايك منذ العام 1937، من أنه في حال استمرار نزعة الصناعة المصرفية المركزية، فإن ذلك سيؤدي إلى فوضى في العملة وانتشار الأزمات المصرفية. لقد كانت هواجسه مبررة. فلقد أحاطت أزمات العملة والأزمات المصرفية النظام المالي الدولي بقوة وتواتر متزايدين، على رغم عدم توقع حدوث ذلك في الوقت الراهن. والواقع أن حرية حركة رؤوس الأموال النسبية قد أنتجت، ولمعظم دول الأسواق الناشئة ذات المصارف المركزية، تدفقات الأموال الساخنة وأزمات متكررة لأسعار الصرف والأزمات المصرفية المحلية. فماذا يجب أن نفعل؟
إن الجواب الواضح لهذا هو تخلص دول الأسواق الناشئة الحساسة من مصارفها المركزية وعملاتها المحلية واستبدالها بعملة أجنبية متينة. ويمكن اعتبار بنما مثالا رئيسيا لمنافع استخدام هذا النوع من النظام النقدي. فلقد قامت بنما، ومنذ العام 1904، باستخدام الدولار كعملة رسمية لها. وبذلك، يكون اقتصاد بنما المبني على الدولار جزءا من أكبر كتلة عملة في العالم، وبشكل رسمي. وبهدف دمج نظامها المصرفي في أسواق العالم المالية القائمة على الدولار، قامت بنما بتغيير القوانين المصرفية في العام 1970. ونتيجة لذلك، كانت المصارف الدولية متلهفة للمشاركة في الثورة المالية الخارجية. ويشهد نمو النظام المصرفي في بنما على حقيقة أن الإصلاحات المصرفية التي حدثت في العام 1970 قد أتاحت لبنما الاستفادة من اتجاهات العولمة والتدفق الحر لرؤوس الأموال.
يلغي النظام النقدي المبني على الدولار في بنما مخاطر سعر الصرف واحتمال حدوث أزمة في العملة مقابل الدولار الأميركي. كما أن إمكان حدوث أزمات مصرفية قد خُففت إلى حد كبير بسبب اندماج نظام بنما المصرفي في النظام المالي الدولي. وتوفر طبيعة المصارف البنمية المفتاح لفهم كيفية عمل النظام ككل بشكل سلس. وعندما تكون محافظ هذه االمصارف متوازنة، لا يهمها توزيع السيولة، بفتح أو سحب ائتمان، سواء في الأسواق المحلية أو في الأسواق الدولية. وبتغيّر إمكانات خلق الائتمان في هذه المصارف، يتم تقييم معدلات العائد المضمونة في الأسواق المحلية والدولية وتعديل محافظها المالية بناء على ذلك. إذ يتم توزيع السيولة محليا إذا كانت العوائد المحلية المعدلة بحسب المخاطر تفوق تلك للأسواق الدولية، وتوزيعها دوليا إذا كانت العوائد الدولية المعدلة بحسب المخاطر تفوق تلك السوق المحلية. ويتم عكس هذه العملية عندما ينشأ عجز في السيولة.
إن تعديل محافظ المصارف هو الآلية التي تتيح انسياب السيولة والائتمان من وإلى النظام المصرفي والاقتصاد. ويتم التخلص من تجاوزات أو عجز السيولة في النظام بسرعة لأن المصارف لا تبالي فيما إذا كانت ستوزع السيولة في الأسواق المحلية أو الدولية. إن بنما بمثابة بركة صغيرة تتصل عبر نظامها المصرفي بمحيط دولي ضخم من السيولة. فعندما تتجاوز معدلات العوائد المعدلة بحسب المخاطر في بنما تلك العوائد في الخارج، تقوم بنما بالسحب من محيط السيولة الدولي، وعندما تتجاوز العائدات في الخارج تلك في بنما، تقوم بنما بإضافة سيولة (ائتمان) إلى المحيط في الخارج. ولمواصلة التشبيه، يعمل نظام بنما المصرفي مثل قناة بنما في الإبقاء على توازن مستويات المياه على جانبي القناة. ولا غرابة في أن تكون مستويات الاعتماد والودائع غير مرتبطة بعلاقة متبادلة في بنما بالنظر إلى الدرجة العالية الموجودة من التكامل المالي.
لقد كانت نتائج نظام بنما المالي المبني على الدولار ونظامها المصرفي المندمج دوليا ممتازة بالمقارنة مع دول الأسواق الناشئة الأخرى:
أولا، كانت معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي لبنما مرتفعة نسبيا وكانت تقلباتها منخفضة نسبيا. وهذا أمر رائع وجدير بالملاحظة عندما يؤخذ في الاعتبار أن بنما نموذج تقليدي للاقتصاد المزدوج. فمن ناحية، يمتاز قطاع الخدمات المصرفية بأنه موجه نحو التصدير وذو كثافة رأسمالية ومرتفع الإنتاجية ويولد وظائف قليلة وخالٍ، إلى حد كبير، من تدخل الحكومة. ومن ناحية أخرى، فإن قطاعي الزراعة والتصنيع يمتازان بالركود والضبط الكبير والدعم المالي المرتفع وعدم الكفاءة والحاجة إلى أيدٍ عاملة كثيفة وعدم القدرة على التنافس.
ثانيا، عكست أسعار الفائدة أسعار السوق العالمية، معدلة بالنسبة إلى كلف ومخاطر المعاملات.
ثالثا، كانت معدلات التضخم أقل قليلا من تلك التي في الولايات المتحدة.
رابعا، كان سعر الصرف الحقيقي لبنما مستقرا للغاية ويسير باتجاه انخفاض طفيف قياسا بسعر الصرف للولايات المتحدة.
وأخيرا، أثبت نظام بنما المصرفي، الذي يعمل من دون وجود مصرف مركزي مقرض كملاذ أخير، على أنه شديد المرونة. والواقع أنه قد تعرض لأزمة سياسية رئيسية بين بنما والولايات المتحدة في العام 1988 وعاد عودة قوية في مطلع العام 2000.
للتأمين ضد أزمات العملة والأزمات المصرفية، يتحتم على دول الأسواق الناشئة أن تتبع قيادة بنما وتحذو حذوها عن طريق: التخلي عن القومية النقدية عبر التخلص من المصارف المركزية والعملات المحلية، ودمج أنظمتها المصرفية مع أسواق رأس المال الدولية.
*أستاذ علم الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز، وزميل أقدم في معهد كيتو في واشنطن العاصمة، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1737 - الجمعة 08 يونيو 2007م الموافق 22 جمادى الأولى 1428هـ