أرشدني الأخ العزيز نجيب المناعي إلى معنى قريب من حال الإحباط وتعليق حقوق الناس على البرلمان الذي خيب - باكرا - آمال الناس في حياة رغيدة، وتنمية وعدالة اجتماعية وتوزيع عادل للثروات في البلاد... ومن وحي الذاكرة، فإنه كان يردد كثيرا: «تيش بريش»، و«دز الوسطي يطيح الطرفي وقوم يا أخو الابرق وتكشكش». مخزوننا التراثي مليء بالألفاظ المحلية الغريبة، بعضها مهجن والآخر فصيح إلا أنه غير دارج. ويساهم محمد جمال - جارنا سابقا - في الحفاظ على جزء من التراث من خلال برامجه الإذاعية التي يقدمها بين الفينة والأخرى.
بحسب المناعي، فإن «تيش بريش» تعني لا شيء، أي يتم إطلاقها على الإنسان الذي لا فائدة ولا مضرة منه، وبمعنى شعبي آخر: «حلول اليمعه» لا ينفع ولا يضر!
ومع ذلك فإن لا «تيش بريش» ولا «حلول اليمعه» تصلح وصفا للبرلمان الحالي! فالبرلمان (المفرغ من محتواه الرقابي والتشريعي) ضرره أكبر من نفعه! ويلاحظ ذلك في الموازنة التي رصدت مذ ولادته الأولى مرورا بالثانية، أي مذ الانتخابات ودعم بعض الجهات، من أموال الدولة، لبعض نواب «ضغطة زر»، وكذلك بعد اكتمال المشهد البرلماني، تم الصرف ببذخ على الهبات والأعطيات من سيارات فارهة ورضائيات أخرى يتم اغترافها من أموال الدولة وحقوق الناس.
تحدثنا عن ضرورة وجود إرادة حرة للتعبير عن الأمة، وإذا بها إرادات تضرب بعرض الحائط المطالب الشعبية وتستهين بالحقوق المدرجة ضمن الميثاق والدستور والمواثيق الدولية... ومثال ذلك «التولي يوم الزحف»، والهروب السياسي الكبير الذي مارسه نواب «ضغطة زر» في الجلسة الاستثنائية التي كان مقررا أن تطرح فيها التعديلات الدستورية وإجراء تعديلات على اللائحة الداخلية؛ كي يتمكنوا من ممارسة جزء من دورهم التشريعي والرقابي. إلا أنهم أرادوا غير ذلك، وفضلوا الجلوس خمسة أشهر بالراتب في بيوتهم بلا عمل!
إن حسبناها في الحلال والحرام، فإن النواب الإسلاميين يعجزون عن الإتيان بحديث نبوي شريف، ولو موضوع، يجيز لهم التعبيط خمسة أشهر وجلسة وتسلم الرواتب عن كل تلك المدة. ويُعد ذلك تضييعا للمال العام وإهدارا لوقت الأمة، وذلك لا يجوز شرعا. و «اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون»، وليقدم أي من النواب الإسلاميين على استفتاء أحد العلماء في أمر الرجل الذي يجلس في البيت ويتسلم مكافأة مجزية على رأس كل شهر من خزينة الدولة!
أعتقد بأنه من حق الخبراء الاقتصاديين والقانونيين تكييف وضع النواب في البيوت بلا عمل أنه بطالة مقنعة. إذ يتم دفع رواتبهم من دون توقف مدة خمسة أشهر، أي قرابة نصف سنة، إضافة إلى الهروب السياسي الكبير من الجلسة الاستثنائية، ويكون بذلك مجموع ما «عبطوه» في الراحة والاستجمام هو خمسة أشهر وجلسة!
لا يحق للنواب المطالبة برقابة السلطة التنفيذية على أية مخالفات تصب في الموضوع ذاته، فمن يمارس البطالة المقنعة فلا يحق له محاربتها، ومن يتسلم الهبات الفوقية فلا يحق له المطالبة بوقفها، ومن يحلل لنفسه أي حق فلا يحق له تقييد غيره عن هذا الحق!
الأكيد في هذه القصة (أو الغصة) أنه لا الصحابة ولا السلف الصالح أو المسلمون الأوائل، أو من تبعهم بإحسان، يقبلون الجلوس في بيوتهم ويتمتعون برواتب خمسة أشهر من دون القيام بعمل يستحق هذا الراتب وتلك الامتيازات، التي أمطروا أنفسهم بها مذ لحظة دخولهم المجلس الوطني.
من رحم المعاناة الشعبية، التي يئن تحت رماحها السني والشيعي، يخرج علينا قوم يكونون سفراء للأجنبي مستلهمين نهج «الجلبي» وغيره من عملاء حكام الساحة الخضراء، ويقومون بأعمال يعتقدون بأن نفعها أكبر من ضرها، أي «تيش بريش» مرة أخرى... يتضامنون مع آخرين، بطريق غير مباشر، في نَفَسٍ ونسقٍ طائفيين تماما، يستدعون الذاكرة والروايات، ويتذرعون بالحفر في التاريخ مستخدمين شتى المناهج لترسيخ أفكار طائفية ومخيال جمعي طائفي، وكأن من عاشوا على هذه الأرض، سنة وشيعة، لم يكونوا آباءنا وأجدادنا. المثقف الذي يقوّض فكرة التعايش السلمي بين الطوائف، ويقوم باستخدام تعابيرَ لا تكرس مفهوم المواطنة، هو مثقف يسترزق ويدغدغ العاطفة الطائفية، ويُعطى التصفيق الحار من الطائفيين. وهذا بلا شك عمل غير طيب وغير جدير بالاحترام.
في خضم كل ذلك، يا ترى أين موقف التنظيمات الوطنية مما يجري على الساحة من طأفنة لمشكلاتنا السياسية والاجتماعية؟ أين موقف تنظيم جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) والمنبر التقدمي وبقية القوى السياسية القومية؟ ما موقف منظمات المجتمع المدني قاطبة؟ نتمنى ألا تكون تنظيماتنا الوطنية ضمن قائمة «تيش ابريش» هي الأخرى! و «تيش بريش حقوق الناس معلقة على العريش».
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 1735 - الأربعاء 06 يونيو 2007م الموافق 20 جمادى الأولى 1428هـ