العدد 1735 - الأربعاء 06 يونيو 2007م الموافق 20 جمادى الأولى 1428هـ

عودة من «السلم البارد» إلى «الحرب الباردة»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الصواريخ السياسية الروسية - الأميركية التي انطلقت عشية انعقاد قمة مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى التي بدأت أعمالها أمس في مدينة هايلينفندام الألمانية كشفت عن وجود تحولات في موازين القوى الدولية لم يعد بإمكان إدارة واشنطن تجاهلها أو التعامل معها بخفة. فالكلام الساخن الذي سبق انعقاد القمة أعاد رسم التوازن الذي انكسر في العام 1991 لمصلحة كفة الحلف الأطلسي (الناتو). والرد الروسي على سياسة نشر الصواريخ في بولندا والتشيك جاء ليشير إلى وجود قلق أمني ترفض قيادة الكرملين التعايش معه.

مسألة «الدرع الصاروخي» ليست بداية التوتر ويرجح ألا تكون نهايته. فالقلق بدأ منذ نحو سنتين وتطور خطوة خطوة وصولا إلى «الدرع» الذي تقول واشنطن إنه لا يستهدف موسكو وإنما «الدول المارقة» في الجنوب أو تلك الدول التي تهدد أوروبا بالقصف الصاروخي.

ذريعة أميركا لم تقبضها روسيا. فالإدارة أرسلت وزيرة خارجيتها قبل فترة لتبحث مع المسئولين الروس المسألة وتطمئنهم بشأنها. ولكن كوندوليزا رايس لم تتوفق في إقناع الكرملين بالأسباب التي دفعت «البيت الأبيض» إلى نشر صواريخ باليستية بالقرب من حدودها الغربية وفي منطقة تعتبر استراتيجيا حديقة خلفية لأمنها القومي.

تقديم الصواريخ ونقلها من أوروبا الغربية إلى الشرقية (المعسكر الاشتراكي سابقا) ليس مسألة عابرة ومن التفصيلات. فالصواريخ بعيدة المدى وعابرة للقارات أي أنها تشكل محاولة لاختصار المساحات الجغرافية واختزال الزمن لمصلحة الجانب الأميركي. وهذا التطور في التوازن الصاروخي (الاقتراب من الأهداف) ليس تفصيلا بسيطا في حسابات الدول الكبرى. لذلك تخوفت موسكو من الخطوة وأعربت عن قلقها ورفضت كل التفسيرات والتطمينات والضمانات التي حاولت واشنطن تسويقها إعلاميا.

السؤال: لماذا قررت الولايات المتحدة الإقدام على اتخاذ هذه الخطوة وهي تعلم أنها ستؤدي إلى استفزاز روسيا الاتحادية؟ هناك احتمالات كثيرة يمكن ترتيبها داخليا وأوروبيا ودوليا. من الناحية الداخلية تواجه الإدارة الجمهورية سلسلة ضغوط من الشارع والحزب الديمقراطي بشأن حروب التقويض التي شنتها في السنوات الست الماضية وأعطت نتائج تعاكس توجهات تيار «المحافظين الجدد». ويحتمل أن تكون هذه الخطوة التي قررتها إدارة جورج بوش محاولة يائسة لفك العزلة داخليا من خلال إثارة أجواء توتر دولية تستنفر القوى المحلية بهدف إنعاش مناخات «حرب باردة» جديدة. فالعودة إلى أجواء تلك الحرب يرفع من نسبة ذكريات صعبة شكلت مادة خصبة آنذاك لأجهزة المخابرات المركزية للتلاعب بوعي الرأي العام وتنظيم سلوكياته وأولوياته. وربما افترضت الإدارة أن هذا النوع من التلاعب بالمشاعر يغطي على تلك التحركات السياسية والتحشيد العسكري الجاري في مناطق أخرى. فالإدارة لم تعترف حتى الآن بالفشل وهي تراهن على نجاح خطتها الأمنية في العراق وتعتبر أنها حققت انجازات هائلة في مختلف المناطق، ولذلك أقدمت على نشر الصواريخ في شرق القارة الأوروبية لضمان سير مشروعها في «الشرق الأوسط الكبير». هذا التفسير رفضته موسكو وأكدت أن المنظومة ليست دفاعية بل هي خطوة هجومية تحت غطاء لا مبرر له. كذلك ردت طهران على ادعاءات واشنطن وأكدت أن كلام إدارة بوش عن احتمال توجيه إيران صواريخها إلى جنوب أوروبا وشرقها مجرد أكاذيب أطلقت للتهويل والتخويف.

من الناحية الأوروبية تبدو إدارة واشنطن في العلاقة مع القارة في وضع مريح قياسا بالسابق بعد غياب المستشار شرودر عن المسرح السياسي الألماني ثم مغادرة الرئيس الفرنسي جاك شيراك قصر الاليزيه. أميركا الآن تمر بفترة «شهر عسل» مع ألمانيا وفرنسا وهذا أعطى بوش بعض المقويات التي كان يحتاج إليها لإنعاش ذاكرته وتنشيط ملفات قديمة تردد سابقا في فتحها. وربما تكون خطة نشر الصواريخ (الدرع) محاولة جس نبض للحلفاء الجدد وبداية اختبار لمدى متانة العلاقة مع القوتين المضافتين للولايات المتحدة في سياسة التجاذب القائمة منذ فترة مع المحور الروسي. ويمكن القول إن هذه الخطوة (التقدم الصاروخي باتجاه حدود روسا الغربية) تستهدف إعادة تشكيل مظلة سياسية واقية تضمن الدور الأميركي في القارة لمساحة جغرافية أوسع ومسافة زمنية أقصر تعطي أفضلية للكفة الأطلسية في معادلة التوازن التي خسرتها موسكو بعد انهيار «الحرب الباردة».

توازن دولي جديد

من الناحية الدولية تبدو إدارة بوش في حال صراع مع الوقت وهي تسارع إلى اتخاذ خطوات عشوائية وغير مدروسة بهدف إعادة ترتيب علاقات ولعب أوراق وتثبيت مواقع تضمن الحد الأدنى من التنازلات أو تخفف نسبة الخسائر التي سجلت ضدها ويمكن أن تخسر أكثر في حال استمر تعديل التوازن في السياق الذي هو عليه الآن. فالعالم اليوم تغير شكله عن تلك الصورة التي ظهر عليها بعد العام 1991. وسياسة القطب الواحد التي نقلت الدول من إطار «الحرب الباردة» إلى إطار «السلم البارد» أصيبت بالشلل وبدأت تتفسخ في أكثر من مكان. ففي القارة الجنوبية (اللاتينية) تراجع النفوذ الأميركي وأخذت هيبة واشنطن تتراخى بعد سلسلة الهزائم الانتخابية (الديمقراطية) في خمس دول. وفي إفريقيا لم تعد شعوب القارة ودولها تصدق تلك الوعود الكاذبة بالمساعدات والمعونات والاستثمارات وخفض فوائد الديون. وفي آسيا بدأت «دول النمور» تستفيق من تلك الضربات الاقتصادية والمالية (البورصة) التي تعرضت إليها في منتصف تسعينات القرن الماضي وبدأت تعيد إنعاش قواها لتتجاوز حافة الانهيار. أما الهند والصين وروسيا فإنها تشهد منذ خمس سنوات قفزات هائلة في نموها الاقتصادي أدت إلى توسيع سوق الاستثمارات ومراكمة احتياطات نقدية تلبي حاجاتها الداخلية للتوظيف في مختلف القطاعات التقنية والإنتاجية. وتعتبر موسكو في هذا الشأن مفاجأة غير متوقعة حين نجح الرئيس فلاديمير بوتين في نقل روسيا من دولة منهكة تحتاج إلى معونات غربية إلى دولة تتقدم اقتصاديا وتراكم الاحتياطات النقدية في خزينتها. فموسكو وفي أقل من ثماني سنوات لم تعد عاصمة تتحكم بها عصابات المافيا بل قطعت تلك الأشواط الضرورية لإعادة تجديد مواقعها وتحسين صورتها وتنشيط هيبتها الدولية. وحين تنتقل روسيا في أقل من عقد من دولة مفلسة إلى دولة تستطيع الاستغناء عن الهبات النقدية والمعونات الأوروبية فمعنى ذلك أن أميركا بدأت تفقد سيطرتها على اللعبة الدولية.

عودة موسكو إلى الساحة بعد غياب قسري دام نحو 15 عاما تشكل دافعا أساسيا من وراء لعبة تقديم الصواريخ الأميركية ونقلها أو توسيع نشرها من غرب القارة إلى شرقها. فالزحف الأميركي إلى حدود روسيا الغربية ليس حركة عسكرية بقدر ما هو خطوة سياسية تريد استفزاز موسكو وإثارة مشاعر دفينة تحرك ذكريات «الحرب الباردة».

بوش نفى هذا الأمر وجدد مرارا بأن «الحرب الباردة» انتهت وان الصواريخ ليست موجهة إلى الشرق وإنما إلى الجنوب لمواجهة تهديدات «الدول المارقة». ولكن الرئيس الأميركي ألحق نفيه بسلسلة انتقادات للإصلاحات والعملية الديمقراطية في روسيا والصين في آن. وهذا الانحراف في النقد السياسي لتوجهات دولتين كبريين في العالم يؤكد تلك الاستفزازات الايديولوجية التي تقارب كثيرا تصريحات تحريضية سبق وأطلقها الرئيس رونالد ريغان في عهده ضد «إمبراطورية الشر».

الكلام الأميركي عن منظومة الصواريخ الدفاعية متناقض ويحتمل أكثر من تفسير. فالصواريخ سياسية وهي عابرة للقارات وهي هجومية وليست دفاعية وتعكس رغبة في الانتقال من «السلم البارد» إلى فترة «الحرب الباردة». وهذه العودة تعتبر ردة إلى الوراء، وكذلك ردة فعل غير مستحبة على بداية نمو في موازين القوى يرجح أن يعدل التوازن الدولي في حال استمر الوضع يتطور في السياق الآني.

الاحتمالات إذا كثيرة وهي تفتح الباب أمام توقعات كثيرة منها أن واشنطن أرادت من نشر الصواريخ فتح باب التفاوض عليها مع موسكو مقابل تنازلات روسية مقابلة، ومنها أنها أرادت توجيه رسالة تطمين لأوروبا واختبار نوايا القارة في ضوء التحولات السياسية الأخيرة، ومنها أنها تعكس ذاك القلق من عودة نمو القوة الروسية المعززة دوليا بتحالفات متينة مع الصين والهند.

الاحتمال الأخير ربما يكون الأقوى. وإذا كان هو المرجح فمعنى ذلك أن الصواريخ السياسية التي أطلقت بين موسكو وواشنطن عشية انعقاد قمة الدول الصناعية في ألمانيا تؤشر على بداية استنهاض شروط العودة من «السلم البارد» إلى «الحرب الباردة».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1735 - الأربعاء 06 يونيو 2007م الموافق 20 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً