إنه «عمل». هكذا ينتهي الجزء الثالث من الشريط السينمائي «قراصنة الكاريبي». فقائد الأسطول التجاري التابع لشركة «الهند الشرقية» يقرر التضحية بسفينته وتركها طعما للقراصنة لأن السوق تقتضي التنافس. والتنافس جزء من العمل والأشغال ولعبة الصراع على السوق.
نهاية الفيلم الذي دمج بين السياسة والأسطورة وربط بين الخرافات وتلك القصص المبالغ فيها عن البحار أعطت فكرة الصراع على البحار طابعها التجاري. فالتجارة مغامرة ومن يفوز بها ينجح في السيطرة. إلا أن السيطرة المطلقة تعطل إمكانات التنافس وتلغي عند الإنسان الرغبة في التطور. ولهذا السبب قرر الأدميرال التضحية بسفينة القيادة حين أدرك أنه نجح في السيطرة على البحار وطرد القراصنة من سنوات. فالمعركة انتهت لمصلحة «شركة الهند الشرقية» إلا أن نهاية القراصنة تعني نهاية التنافس وغياب ذاك الهامش الضروري لتبرير الاستمرار في التطور والرقابة. وحين جاءت المعركة النهائية بين أسطول ضخم تملكه امبراطورية لا تغيب عنها الشمس (بريطانيا العظمى) وآخر سفينتين للقراصنة يقرر الأدميرال عدم إكمال المهمة. وبدلا من إغراق آخر سفن القراصنة يتجه نحو الانتحار وترك سفينته تغرق حتى لا ينتهي عالم الصراع وتصبح السيطرة المطلقة نهاية لقوة لا تجد من ينافسها أو يقاتلها.
فكرة النهاية أعادت تعويم سيناريو فيلم اعتمد المخيلة مظلة لتمرير حكايات منسوجة ومنقولة عن روايات خرافية ومبالغ فيها. فالقصة التي روت حكاية القراصنة في ثلاثة أجزاء تحدثت عن عالم انتهى في عصرنا ولكنه كان يقض مضاجع التجارة الدولية حين عزت السفينة نهاية المعمورة واكتشفت العالم الآخر من الأرض.
القراصنة آنذاك كانوا القوة البحرية الأولى في العالم. وبسبب توزعهم على فرق ومجموعات شكّلوا قوة ضغط على التجارة العالمية نظرا إلى ذلك التنافس الذي كان يدفعهم للغزو والسيطرة والسطو على السفن المبحرة شرقا وغربا.
ونتيجة هذا الخطر الدائم الذي يثير القلق وينشر الفزع قررت بريطانيا التخلص من لصوص البحار. وهكذا تنشب معارك طاحنة بين قوات بحرية منظمة ومدربة ومجموعات فوضوية تتوزع البحار مناطق نفوذ لكل فرقة منها. وبسبب حداثة الأسطول البحري البريطاني ورغبته في حماية تجارة المملكة المتحدة وكسر نفوذ القراصنة ومنافستهم انطلقت المواجهة وامتدت وانتشرت فألحقت الهزائم بالقراصنة وطاردتهم إلى نهاية المعمورة.
هذه المطاردة دفعت القراصنة إلى الاجتماع وتوحيد الجهود وتشكيل مجلس أمناء يتألف من تسعة زعماء للدفاع عن مصالحهم ومنع التنافس. اتجاه القراصنة نحو احتكار السوق الدولية كان السبب في بداية نهايتهم. هكذا على الأقل ما قاله كبير القراصنة. فهو اعتبر أن اعتماد فكرة الاحتكار شكّل خطوة حاسمة في طريق الانهيار. فلو لم تطرح الفكرة لكان العالم أفضل ولم يكن تعرض القراصنة لكل تلك المواجهات التي قهرتهم ودفعت بهم إلى مغادرة أمكنتهم والانكفاء بعيدا تجنبا للخطر.
تُشكل هذه الفكرة «الفلسفية» محاولة لتفسير ذاك القرار الذي اتخذه الأدميرال حين قرر الانتحار تاركا سفينته تغرق حتى ينقذ عالم السوق من الاحتكار. فالاحتكار أسوأ من الانتحار لأنه يعطي سلبيات كثيرة تفوق التضحية بسفينة القيادة من أجل حماية خطوط التجارة الدولية وتحفيز الشركات على تنمية مهاراتهم وتطوير آليات الابتكار. الاحتكار يقتل الابتكار ويضعف المخيلة ويحط من قيمة العمل ويقلل من الانتباه والحذر.
فيلم «قراصنة الكاريبي» ليس سياسيا ولا فكريا، إنه مجرد صور عامة تتحدث عن عالم غامض ومخيف بشكل ضاحك يختلط فيه الجد بالتهريج. ولهذا السبب سجل الشريط نجاحات ساحقة وحقق أرباحا غير متوقعة لأنه لجأ إلى أسلوب التبسيط في شرح تحولات تاريخية حصلت في لحظة يشهد فيها العالم نهاية حقبة وبداية حقبة. فالشريط السينمائي مجموعة خرافات مختلقة اخترعتها مخيلات البحارة حين كانوا ينقلون قصصهم إلى الرواة للتسلية. فالحكايات اختلقت ذاك العالم الخاص والمجهول والمحكوم بالمخاطر وغضب الطبيعة والانواء وأدخلت عليه مغامرات «سندبادية» تمزج بين واقعية وتصورات ناتجة عن عزلة البحارة وابتعادهم عن الناس وحياة البشر العادية.
العزلة ترفع من نسبة المخيلة وتعطيها ذاك المذاق الخاص الذي يرسم صورة عالم غير موجود في الواقع ولكنه يهيمن على سلوك كتلة من الناس قررت خوض التجارة عن طريق المغامرة والسطو والسرقة والاستيلاء على أملاك الآخرين ومصادرتها لبناء قوة تزيد من النفوذ وترهب الخصوم وتعطي المواجهات طابعها الأسطوري.
هذا المزج بين الإنسان ومغامراته الواقعية أعطى مخيلة القرصان قوة تصور لعالم آخر غير موجود ولكنه يسافر مع البحارة وينتقل معهم من محطة إلى أخرى. والانتقال من مكان إلى مكان يفتح الباب لرواية حكايات عن حيوانات وسفن وقوى ساحرة موجودة في عمق البحار يصعب السيطرة عليها.
كل هذا العالم المتخيل استخدمه مخرج الفيلم في قالب مغامر وساخر ومضحك معتمدا سرعة الحركة والصورة التي ترسم تلك الأشكال المخيفة والبريئة في الآن. وبين مشهد وآخر كان الشريط يعود بالمشاهد من ذاك العالم الغريب إلى الواقع وما يعنيه من خلافات وصراعات في زمن اتجهت الامبراطورية البريطانية نحو فرض سيادتها الكلية والمطلقة على عالم البحار. ونتيجة هذا الدمج توفق المخرج في إنتاج فيلم يخاطب مختلف الأجيال والأذواق. فهناك مشاهد بشعة ومقرفة ومخيفة ولكنها تبدو عادية عند المشاهد لأنها منقولة عن عالم خرافي وغير موجود. وهناك مشاهد تتحدث عن أعماق البحار في زمن متغير تظهر به الوحوش بأشكال غريبة ولكنها أيضا تعاني من أزمات داخلية ونفسية. كذلك تظهر مشاهد عامة عن عالم القراصنة الذي يوفق بين المغامرة والقسوة والرغبة الدائمة في السطو ولكنه أيضا يظهر تآكله من الداخل وتراجعه عن ذاك الدور الذي تبوأ خلاله قيادة حركة تمرد ضد التجارة البحرية. وأخيرا هناك عالم «شركة الهند الشرقية» التي غزت آسيا ونجحت في مدّ شبكاتها وشكّلت قوة اقتصادية قاهرة اعتمدت عليها الامبراطورية لتوسيع نطاق هيمنتها.
العالم الأخير هو الجانب الواقعي (الرواية التاريخية) في الفيلم بينما بقية العوالم فهي مختلقة ووهمية وغير موجودة. إلا أن نجاح المخرج في خلط المشاهد على أنواعها مازجا بين الخرافة والحقيقة أعطى حيوية للشريط السينمائي. وأدى أسلوب التوفيق بين العوالم المتعارضة في تشكيل تلك الصور المتحركة التي تجذب المشاهد وتشده إلى متابعة حكايات اخترعها عقل الإنسان من دون احتجاج على نمطية العمل أو علاقات تتحكم بها الخرافة. الإنسان عادة يميل إلى عدم تصديق الخرافة ولكن مخيلته تسمح له دائما بالاستماع إليها من دون ضرورة إلى قبولها. وهذا التعارض بين رفض الإنسان للخرافة واستعداده للاستماع إليها شكّل أساس اللعبة التي اعتمدها المخرج لجذب المشاهد لرؤية عالم القراصنة.
العدد 1735 - الأربعاء 06 يونيو 2007م الموافق 20 جمادى الأولى 1428هـ