في ضربة واحدة، وفي لحظة نادرة من لحظات الزمن، تمكن باراك حسين أوباما من تحقيق حلمين كبيرين لرجلين كبيرين.
فلم يكن الأب حسين أوباما يحلم وهو يغادر قريته الكينية الفقيرة، هاربا من الجوع والفقر، بأكثر من عمل بسيط يقيه شر العوز والمذلة، فساح غربا وشرقا في أرجاء المعمورة، وتزوج بأميركية بيضاء، تحت إغراء الاستقرار، فأنجبت له باراك، الذي تركه منفصلا عن أمه وهو في عمر السنتين... هل راوده ذات لحظة حلم بعيد المنال، بأن يصبح هذا الطفل الشريد رئيسا لأكبر دولة في العالم... مستحيل!
ولم يكن الزعيم الزنجي الأشهر مارتن لاتركنج، يحلم مع نهاية ستينيات القرن الماضي، بأن يحصل الزنوج الأميركيون على حقوقهم وحرياتهم المدنية، في وقت كانت الولايات المتحدة أضخم ساحة للتفرقة العنصرية، حيث كانت لافتات «ممنوع دخول الزنوج والكلاب» ترفع على واجهات المطاعم والمسارح والمدارس والحافلات بل والأحياء السكنية كاملة، بينما الفصل العنصري يتم تحت قوة السلاح والقتل العادي لمن يكسر قواعده.
فهل راوده حلم قبل اغتياله بأن شابا زنجيا يافعا اسمه باراك سوف يكتسح الانتخابات الأميركية ليصبح رئيسا للولايات المتحدة، بعد أقل من أربعين عاما من تلك الأحداث الدامية ذات الطابع العنصري المقيت!
الحقيقة أن باراك أوباما قد فعلها أخيرا في انتخابات الرئاسية الأميركية يوم 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2008، وهو يوم يؤرخ له بقوة، يوم اقتحام أول رئيس أسود للبيت الأبيض قارعا جرس التاريخ، مسقطا النفوذ التاريخي «للواسب» أو احتكار البيض الساكسون البروتستانت الذين ظلوا يحكمون أميركا على مدى أكثر من قرنين منذ الاستقلال حتى الرابع من نوفمبر 2008، حارمين أصحاب البلاد الأصليين والمهاجرين الزنوج والهسبانكس من أبسط الحقوق المدنية.
وأظن أن هذا هو المغزى الحقيقي لنجاح أوباما باكتساح في مواجهة واحد من أشد صقور «الواسبا»، وهو نجاح لم تحققه الشخصية الكاريزمية للرجل، ولا قدرته الفائقة على اجتذاب مسامع ومخاطبة أفكار مشاهديه ومغازلة الطبقة الوسطى عماد المجتمع الأميركي فقط، بل هو نجاح حققه المجتمع الأميركي كله، حين قرر التحول في لحظة نادرة من لحظات تاريخه، من حالة احتكار حكم البيض على مدى قرنين من الزمان، إلى تجربة حكم جديد لرئيس جديد يمثل جيلا جديدا من أولئك الزنوج الفقراء، الذين خبروا الجدع ولكنهم تعلموا ودرسوا في هارفارد أعرق جامعات العالم، وصعدوا إلى الطبقة الوسطى ترقيا من أحواش الفقر التاريخي.
ولا ندري هل كان من حسن حظ باراك أوباما أو من سوء حظه، أنه جاء للرئاسة الأميركية مكتسحا بما لم يحدث من قبل، وسط أنواء الأزمة المالية الاقتصادية الدولية، التي أورثها له الرئيس المغامر جورج بوش الابن، مثلما أورثه حروبا مشتعلة وصراعات دامية، تخوضها الجيوش الأميركية من أفغانستان إلى العراق، دون أن تحقق نصرا بل دون أن تقضي على الإرهاب كما ظل يدعي بوش.
لكن الذي ندريه أنه بعد سبع سنوات من الحرب الأميركية ضد أفغانستان، وبعد خمس سنوات من الحرب ضد العراق، لم تلح في الأفق القريب أو البعيد ملامح النصر ولا حتى أوهام تسوية، في ظل تورط أكبر جيوش العالم في مستنقعات وعرة وجبال أكثر وعورة، يجري استنزاف قواها يوما بعد يوم، بينما هي تمارس القتل العشوائي والإرهاب المنظم وتنفق تريليونات الدولارات، أملا في نصر بلا طائل.
وإذا جاز لنا أن نستنتج شيئا جديدا ربما شيئا يثير الأمل من مجيء أوباما خلفا لبوش، ودون تهويل أو حتى تفاؤل شديد، فهو أن لغة سياسية جديدة بدأت تدخل القاموس الأميركي في السياسة الخارجية خصوصا، على لسان الرئيس الجديد، وهي لغة أخف تطرفا وأكثر عقلانية وأقل عدوانية، حتى الآن على الأقل، من تلك اللغة العنصرية العدوانية الحادة، التي ظل بوش يستعملها طوال سنوات حكمه الثماني، المعبأة بكل الكراهية للعالم.
والمعنى المباشر هو أن دخول أوباما إلى البيت الأبيض، سيزيح آخر عصابات المحافظين الجدد الليكود المتعصب، ويبعد فلولهم بعيدا عن السياسات وسلطة اتخاذ القرار، فيهرب من يهرب قافزا من السفينة، كما فعل رامسفيلد وبيرل وولفوفتز وفايث، ولم يصمد على مائدة اللئام من رموزهم الكبيرة إلى جانب بوش سوى نائبه ديك تشيني.
فإن قرأنا مجمل الخطابات الانتخابية لباراك وحللنا مضمونها بموضوعية، وأعملنا القليل من التفاؤل، لقلنا إن روحا جديدة ولغة مغايرة تهبّ على السياسة الخارجية الأميركية، على لسان رئيس جديد يريد أن تتصالح أميركا مع نفسها أولا، ومع العالم الخارجي ثانيا، ويرفع شعارا مهما هو «التغيير» في سبيل تحقيق ذلك!
فإن صدق فهو يريد تغيير ذلك الخط الملتهب الذي مارسه المحافظون الجدد مع بوش، فأشعلوا العالم صراعات وحروبا، وعبأوا أجواءه بالكراهية، كراهيتهم للعالم وكراهية العالم لهم، فلم يجنوا سوى الخيبة والحسرة يجمعونها في حقائبهم وهم يفرون الآن، وانظر كيف قال ماكين أحد خلفاء بوش ومرشحه للرئاسة في مواجهة أوباما، «إنني مستعد للبقاء في العراق مئة عام لكي أحقق النصر»، بينما قال أوباما إنه «سيعمل على الانسحاب من العراق خلال فترة قصيرة».
وأظن أن هذا بعض ما صنع الفارق بين المتنافسين لدى الناخب الأميركي، إضافة إلى عوامل أخرى، حولها الإعلام الأميركي الجبار إلى أدوات تأثير إيجابية لصالح أوباما الذي يريد لملمة جراح الحروب والصراعات غير المبررة، والتي تكلف الخزينة الأميركية أعباء غير مسبوقة.
مرة أخرى دون إسراف أو تهويل في التفاؤل أو استباق متسرع لما نتوقعه من تغيير سيحدثه أوباما في السياسة الخارجية خصوصا يجب أن نتمسك بلغته الجديدة الأقل تطرفا، ولا نقول الأكثر اعتدالا، فيما يتعلق بقضايانا العربية، مثل العراق وفلسطين وابتزاز سورية وإشكال دارفور وتدمير الصومال وإرباك الخليج العربي عبر معاداة إيران.. إلخ.
لغة شبه التصالحية توحي إذا بقدر من التغيير في المفاهيم والسلوك والتعامل، نقول ذلك ونعلم حقيقتين ظاهرتين، الحقيقة الأولى أن باراك حين تعرض لأكبر حملة ابتزاز صهيونية بأنه مسلم اسما ورسما، قال إن اسمه باك هو الاسم العبري ياروخ، اكتسابا لتأييد اللوبي الصهيوني المؤثر انتخابيا، زار «إسرائيل» ووضع القلنسوة اليهودية على رأسه وحج إلى نصب ضحايا النازية، ورفض زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ثم أتبع ذلك بخطابه الشهير أمام منظمة «ايباك» أقوى منظمات اللوبي الصهيوني وتعهد فيه بالتعهدات التقليدية، أن يضمن أمن «إسرائيل» جزءا من أمن أميركا، أن يحافظ على «إسرائيل» قوية وأقوى من كل جيرانها العرب، أن تبقى القدس عاصمة أبدية للدولة العبرية.
وفي البداية والنهاية نعلم أن كل هذا كان من لوازم الحملات الانتخابية التقليدية الأميركية، قد يلتزم بها المرشح وقد لا يلتزم.. العبرة بالتطبيق، وما من رئيس أميركي جاء إلا والتزم بـ «إسرائيل»!
أما الحقيقة الثانية في مسار أوباما في البيت الأبيض، فهي أنه لا هو ولا أي رئيس أميركي، يحكم متفردا كما يحكم العرب، إنه كرئيس منتخب خاضع لتوزيع سلطات، بين قوى عاتية النفوذ، وخصوصا الكونغرس بمجلسيه، والبنتاغون، ومجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية، وتأثير الصحافة والإعلام... وكلها تضع على صنع سياساته كوابح وضغوطا واضحة، لا يستطيع أن يعبر حدودها بسهولة ويسر، وبالتالي فإن حلمه بالتغيير الواسع، كما عبّر عنه في حملاته الانتخابية، يظل محكوما بهذه الكوابح، حتى لو غامر بتحدي الجميع، ولعل ذلك ينطبق أكثر مما ينطبق على تغيير مواقفه من قضايانا العربية!
نستطيع المجازفة بالقول إن الرئيس الجديد غير ذلك الغارب حتما، من حيث الفكر والفهم والسلوك، وأن لديه رغبة عارمة في تغيير كثير من السياسات الأميركية، بصرف النظر عن قدرته عليها، لكن رغبة التغيير لديه يجب أن تقابل بترحيب أولا من داخل أميركا، وثانيا من خارجها، لأنها إن نجحت فستشكل لحظة تاريخية نادرة من التصالح الأميركي مع العالم كله، بعد عقود من الحروب والصراعات والاحتكارات!
وفي النهاية نسأل أنفسنا، أين نحن من هذه الرغبة التغييرية والحركة الجديدة... هل ندخل في إطار التصالح من جفاء، أم ننتظر متشككين خائفين من خديعة أخرى، يخفيها أوباما في جراب الحاوي!
أثق أن على المسئولين ومراكز البحوث العربية الجادة (إن وجدت) أن تبذل مجهودا مكثفا، لاستكشاف توجهات التغيير الجديدة في السياسة الأميركية، تجاه القضايا العربية الساخنة وخصوصا فلسطين والعراق، حتى يمكن بناء مواقف محددة، قبل أن يفلت الزمام، ويسقط أوباما في براثن عصابات متصهينة متعصبة، كما حدث مع بوش من قبل!
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 2259 - الثلثاء 11 نوفمبر 2008م الموافق 12 ذي القعدة 1429هـ