الزِّيارة التي قام بها الرئيس المصري حسني مبارك إلى الخرطوم والتقى خلالها الرئيس السوداني عمر البشير تؤشر إلى وجود توجه دبلوماسي أخذت تقوده القاهرة باتجاه تحصين الوضع العربي ومنع تدهور علاقاته إلى مزيد من الانهيار. فالدُّبلوماسية المصرية التي شهدت بعض الجمود لأسباب اضطرارية نجمت عن تلك الهجمة الأميركية الشرسة في عهد الرئيس الحالي جورج بوش أخذت تستعيد فاعليتها بعد أن سجلت واشنطن سلسلة إخفاقات سياسية نتيجة تجاوزها موقع الدول العربية ودورها الإقليمي في ترسيم خريطة العلاقات الدولية.
لم تقتصر زيارة الرئيس المصري على الخرطوم بل توجه نحو الجنوب وزار جوبا في جولة وصفت بالتاريخية لأنها فتحت مجال المباحثات على كل الأطياف التي يتشكل منها المجتمع السوداني، ومهدت الطريق لتوسيع شبكة العلاقات لتشمل كل القوى التي تتمتع بموقع في التأثير على السياسة الداخلية.
عودة الدبلوماسية المصرية لتلعب دورها المعهود في الخريطة السياسية العربية تعتبر نقطة إيجابية في توقيتها لأنها تظهر ذاك الاستعداد الإقليمي لتعبئة الفراغ في حال تراجعت الموجة الأميركية وتوقفت واشنطن عن مواصلة استراتيجية التقويض التي اعتمدتها في السنوات الماضية. وانكسار الموجة الأميركية يعطي فرصة للقوى الإقليمية التي تتمتع بالموقع والنفوذ في لعب دور خاص في ترتيب العلاقات العربية وتحسين شروطها في التفاوض وتحصينها من الاختراق الداخلي. فالوظيفة الإقليمية للدبلوماسية المصرية في ظل غياب استراتيجية عربية مشتركة تساهم في رسم إطارات عامة تضمن الحد الأدنى المطلوب لتعزيز المواقع التي تعرضت لهجمات وغزوات وضربات في عهد بوش.
المنطقة العربية - الإسلامية كانت الضحية الأولى لعصر «تيار المحافظين الجدد» وهي تحولت إلى هدف دائم بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 إذ استغلت عصابة «المحافظين الجدد» هوية وجنسيات المتهمين بالتخطيط أو تنفيذ الهجمات لتعلن «الحرب العالمية» على شبكات سرية أو وهمية تنتشر في العالم العربي - الإسلامي. وشكلت تلك الهجمات غطاء لشن حروب التقويض في أفغانستان وفلسطين والعراق ولبنان بذريعة أن ثقافة المنطقة وميراثها التاريخي ونمط حياتها تشكل مصادر قوة لسياسة العنف. وتحت هذا السقف الكثيف من الايديولوجيا لعبت الديماغوجيا الإعلامية دورها في التحريض ضد الإسلام والمسلمين والعرب والحضارة العربية وتاريخ المنطقة العربية. وهذا ما دفع إدارة واشنطن إلى اتباع سياسة طرد الدول العربية من لعب دورها التقليدي في تحصين الحدود أو المشاركة في ترتيب العلاقات وتصحيحها.
في أفغانستان عمدت إدارة بوش إلى تحطيم هيئة الدولة وتمزيقها إلى مجموعات سياسية قبلية تعتمد أنظمة محلية تعطل على «الدولة» عودتها لتلعب دورها الضابط للقبائل. وفي فلسطين شجعت إدارة بوش رئيس الحكومة آنذاك ارييل شارون على شن هجوم معاكس وإعادة احتلال الضفة والقطاع ومحاصرة ياسر عرفات في مقره بذريعة أن السلطة الفلسطينية تشجع على الإرهاب وتغذيه. وفي العراق أمرت إدارة بوش باحتلال بلاد الرافدين وتقويض «الدولة المستبدة» وتمزيقها إلى دويلات طوائف تتنازع السلطات مناطقيّا وتدفع العلاقات الأهلية إلى التصادم والتصارع على غنيمة الحرب. وفي لبنان أقدمت إدارة بوش على إعطاء الضوء الأخضر لحكومة إيهود أولمرت بشن هجوم جوي يدمر البنية التحتية ويضعف الدولة ويشرذمها إلى مراكز قوى تتنافس على تثبيت مواقعها في دوائر مناطقية ومذهبية.
هجمات التقويض
كل هذه الهجمات التقويضية التي نظمتها إدارة بوش بإشراف وتخطيط من «تيار المحافظين الجدد» استهدفت في النهاية تقويض فكرة الوحدة وبعثرة التشكيلات الأهلية إلى هويات طائفية ومذهبية وقبلية ومناطقية ضيقة تمنع الدولة من العودة وتعطل احتمالات الاتصالات بين المجموعات المحلية تحت قبة وطنية جامعة. وبسبب هذه الايديولوجيا الأميركية العدوانية اتجهت واشنطن إلى وضع حواجز تمنع الدول العربية من لعب أدوارها التقليدية في العراق وفلسطين ولبنان وصولا إلى السودان وأفغانستان.
أدت هذه السياسة الأميركية إلى إضعاف الدور العربي من خلال منع العواصم الإقليمية من ممارسة نفوذها التقليدي في الكثير من الملفات. فهي مثلا قطعت الطريق على الجهود العربية الدبلوماسية في فلسطين وقادت معركة ميدانية ضد المبادرة السلمية التي أقرت في قمة بيروت فانتهى المطاف بخروج عرفات من المشهد وانقسام السلطة وتبعثرها إلى حكومتين. وهي أيضا لم تمانع في تسجيل ضربات ضد الدبلوماسية العربية في العراق (خطف وقتل وتفجير) بقصد إبعاد الوجود العربي وما يمثله من رمزية تاريخية حتى يفتح الباب لأمراء الطوائف والمناطق في مواصلة سياسة الهدم وتجريد بلاد الرافدين من هويتها العربية. والأمر نفسه تكرر في لبنان حين أقدمت إدارة واشنطن على تفويض تل أبيب بشن عدوان طويل على بلاد الأرز بهدف تفكيكها وتحويلها إلى ساحة مفتوحة لتوجيه الرسائل.
هذه المشاهد المرئية عن الصورة العربية تعززها الكثير من الصور غير المرئية عن المشهد العربي. فهناك الكثير من المصالح تعرضت للتقويض أو للتراجع أو للانكفاء بسبب ذاك الهجوم الذي قررته عصابة «المحافظين الجدد» ما أدى إلى رفع درجة الضغوط على الدول العربية الإقليمية وتعطيل دورها التقليدي في ضمان عدم انهيار العلاقات الأهلية.
إلا أن الحسابات الأميركية انتهت إلى نتيجة سلبية وبدأت المعادلة تنقلب على الإدارة حين اصطدمت بوقائع ميدانية يصعب تجاهلها أو تجاوزها من دون ثمن استراتيجي. فواشنطن الآن وبعد «خراب البصرة» بدأت كما يبدو بإعادة قراءة المحصلة العامة لتلك السياسة التدميرية. وهي باتت في موضع ضعيف وغير قادرة على منع عودة الفعالية للدور العربي بعد أن لاحظت النتائج السلبية لذاك الغياب. وإقدام القاهرة على فتح القنوات وإجراء الاتصالات المطلوبة في بغداد وبيروت ومواصلة تنشيط الحوار الوطني على الصعيد الفلسطيني تعتبر إشارات دبلوماسية للرد العربي. فعودة مصر لتلعب دورها الدبلوماسي مسألة مهمة لأنها تأتي في توقيت مناسب وربما تساعد لاحقا على تعبئة الفراغ المتوقع في حال واصلت واشنطن سياستها الفاشلة.
زيارة الرئيس المصري إلى السودان تعتبر خطوة ضرورية لإعادة ترميم علاقة ثنائية تتحكم بها مجموعة شروط جغرافية وتاريخية. وهذه الزيارة لا تعزز دور القاهرة الدبلوماسي فقط وإنما تعطي أيضا إشارة لتوضيح الكثير من الخطوات اللافتة التي بدأت الحكومة المصرية باتخاذها في الشهور والأسابيع الأخيرة. فالدبلوماسية المصرية شهدت حيوية وأنشطة وخصوصا في المناطق الحساسة التي تعرضت لضربات قوية من «تيار المحافظين الجدد» فهي أرسلت الوفود إلى العراق ولبنان وأخذت بمد جسور التفاهم والتواصل مع مراكز القوى والمجموعات الأهلية لإعادة جمعها وضبطها تحت السقف العربي الذي قصف خلال السنوات الماضية بالصواريخ والقنابل الأميركية. كذلك نجحت الدبلوماسية المصرية في العبور إلى فلسطين من خلال بوابة غزة وما يعنيه ذاك الثغر الجغرافي من خطوط تقاطع تاريخية تربط القاهرة بالعواصم المشرقية.
الحراك الدبلوماسي المصري جاء ردّا على الهجمة الأميركية في توقيت مناسب وفي الأمكنة التي تزعزت أهليّا بسبب استراتيجية التقويض. فواشنطن استخدمت القوة لتقطيع أوصال العراق وفلسطين ولبنان خلال السنوات الثماني الماضية وجاء الرد الدبلوماسي من خلال إعادة الحيوية لتلك الأنشطة التقليدية انطلاقا من بوابات العراق وفلسطين ولبنان. فهذه الثغور الجغرافية شكلت معابر للهجوم الأميركي على المنطقة العربية وهي بحكم موقعها التاريخي يمكن أن تعطي فعالية مضافة للرد الدبلوماسي المطلوب تعزيزه سياسيّا لمنع تفكك المنظومة الإقليمية في حال قررت واشنطن إعادة التموضع في ظل إدارتها الجديدة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2259 - الثلثاء 11 نوفمبر 2008م الموافق 12 ذي القعدة 1429هـ