الصراع على المخيمات في لبنان شكّل على امتداد العقود الستة الماضية نقطة تجاذب فلسطينية وإقليمية ومحلية. وما يحصل في مخيّم «نهر البارد» منذ أكثر من أسبوعين يقدّم عيّنة راهنة عن صور تلك المواجهات الدائمة الباردة والساخنة. ومن يقرأ محطات ذاك الصراع يمكن أن يرصد من خلالها مجرى الحياة السياسية العامّة في لبنان والمنطقة العربية. فالمخيمات الفلسطينية في لبنان كانت ولاتزال مفتوحة على التحوّلات الدولية والإقليمية ولذلك عكست دائما موازين القوى في المنطقة وثقلها ودورها. ومن يمسك بالمخيمات في لبنان يعني أنه يشكّل قوة جذب في دائرة المحيط الجغرافي يستطيع أن يعتمد عليها لإثبات قدراته الأيديولوجية والإدعاء بأنه يشكّل مصدر إشعاع أو إثراء لهيئات ومنظمات مختلفة التوجهات.
تاريخ المخيمات في لبنان يجب أن يدرس سياسيا نظرا إلى خصوصيته في إدارة الحكم الذاتي وما تمثله تلك الخصوصية من تطلعات أيديولوجية تشير إلى المناخ العام الذي يسيطر على المنطقة. في نهاية الأربعينات مثلا تكاثرت في المخيمات تلك المجموعات القومية (حركة القوميين العرب وحزب البعث) التي نادت بالثأر من الصهيونية وطرحت فكرة العودة والتحرير وانتقدت الأنظمة ودعت إلى إسقاطها أو تغييرها تمهيدا لبناء جيش قادر على استعادة الأراضي المحتلة. في مطلع الخمسينات شقت الناصرية (عبدالناصر) طريقها إلى المخيمات وبدأت تظهر هيئات وفصائل تدعو إلى اتخاذ التجربة الناصرية ذاك النموذج القومي العام الذي يتجاوز حدود الأطر الحزبية الضيّقة كالبعث والقوميين العرب.
آنذاك في عهد مصر عبدالناصر كانت المنظمات والحركات الإسلامية ضعيفة أو محدودة التأثير في المخيمات بسبب نجاح الإعلام الناصري في تطويقها والحدّ من نفوذها. وعلى رغم ذلك استطاعت الهيئات الإسلامية الاحتفاظ بهامش لمواقعها من دون أن تتحوّل إلى قوة قادرة على منافسة شعبية عبدالناصر الكاسحة.
جماهيرية مصرعبدالناصر كانت تشكّل ذاك التيار الجارف والقوة القائدة لمزاج الشارعين اللبناني (المسلم) والفلسطيني (المخيمات) وهذا ما أعطى فرصة للتنظيمات القومية العربية بالنمو والتوسع مستفيدة من خلافات عبدالناصر مع الإخوان المسلمين، وهي خلافات نجحت في توظيفها سياسيا بسبب إعلان حركة القوميين العرب تحالفها مع مصر ودعمها لنهج عبدالناصر.
فترة الخمسينات والستينات كانت ناصرية بالمطلق مع وجود هوامش ضيّقة لفصائل وهيئات إسلامية أعطتها فسحة للتحرّك من دون أن تقوى على المنافسة. وبسبب الطبيعة القطرية للصراع الناصري/ الإخواني انعكست تلك التجاذبات الجارية في مصر على مزاج الشارع المسلم اللبناني والمخيمات الفلسطينية فاتجهت النخبة إلى تقليد أو الالتحاق بالحزبين القوميين مع أرجحية لحركة القوميين العرب.
أرجحية الحركة على حزب البعث تعود أسبابها إلى عاملين: الأول نجاح الانقلاب العسكري في سورية ودخول حزب البعث في مطلع الستينات في منافسة عبدالناصر على الزعامة العربية. الثاني إعلان حركة القوميين العرب وقوفها إلى جانب مصر ودعمها عبدالناصر وزعامته الكاسحة.
هزيمة 5 يونيو
استمر هذا التجاذب داخل المخيمات إلى أن وقعت هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967. فتلك الضربة العسكرية التي أسفرت عن خسارة الجولان والقدس والضفة وغزة وسيناء في ستة أيام شكّلت نكسة نفسية للجماهير الفلسطينية والعربية في لبنان والمخيمات ومهدّت الطريق لحصول تحوّلات سيكون لها وقعها الكبير في المنطقة.
هذه الهزيمة قلّصت من شعبية عبدالناصر وكسرت شوكة حزب البعث وأعطت الزخم لنمو نزعة وطنية فلسطينية مستقلة عن مظلات الأنظمة وأغرقت حركة القوميين العرب في موجة يسارية/ ماركسية شطرت تاريخها إلى نصفين محدثة تغييرات في توجهات قادتها.
في نهاية الستينات ومطلع السبعينات بدأت حركة فتح بقيادة ياسرعرفات تعيد تشكيل مزاج الشارع اللبناني (المسلم) والمخيمات الفلسطينية. إلا أن نمو نزعة الاستقلال الوطني لم يقطع الطريق على ظهور توجهات فلسطينية أخرى تأسست على انهيار حركة القوميين العرب وتفرقها إلى منظمات ماركسية تنتقد عبدالناصر وتطالب بإسقاطه أو تغييره عقابا له.
في تلك الفترة تراجعت الناصرية لمصلحة نمو حركة فتح التي اكتسحت المخيمات من دون أن تلغي سلطة القوى التي أسست لنفسها مواقع مستفيدة من دعم الأنظمة لها. فالعراق مثلا أسس حركة فلسطينية تابعة لقيادة البعث في بغداد. وسورية أيضا أسست حركة فلسطينية تابعة لقيادة البعث في دمشق. والمجموعات المتبقية من الناصرية أسست هيئة فلسطينية موالية لمصر. وليبيا في مطلع عهد العقيد معمر القذافي حاولت وراثة الناصرية عن طريق المال لتأسيس فرع يوالي القيادة هناك. أما حركة القوميين العرب فحافظت على بعض مواقعها وطوّرت نفوذها من خلال تأسيس الجبهة الشعبية (جورج حبش) والجبهة الديمقراطية (نايف حواتمة).
في المجموع العام وصل تعداد المنظمات الفلسطينية إلى 11 فصيلا بسبب تلك الانشقاقات المتتالية التي كانت تحصل داخل المخيمات نتيجة تدخلات الأنظمة ومحاولة مد نفوذها الأيديولوجي بإرسال المعونات والدعم والمساعدات المالية. ونجح هذا المجموع في الدخول إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي أعلن عن تأسيسها في قمة الإسكندرية أيام عبدالناصر. وبسبب تكتل المنظمات ودعمها لعرفات الذي كان يقود الفصيل الأساسي سياسيا وجماهيريا استطاعت الفصائل الفلسطينية إعادة تشكيل شخصية منظمة التحرير وفرض حضورها المستقل كقوة رسمية؛ الأمر الذي اعترف بها لاحقا بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1732 - الأحد 03 يونيو 2007م الموافق 17 جمادى الأولى 1428هـ