البحرين القديمة بتاريخها الحضاري، عريقة بأهلها وتنوع مزاجهم السياسي. تلك الجزر المأهولة بالسكان منذ القدم، لم تعرف الهدوء في سنينها تماما كأمواج البحر الذي يحيط بها، كتب أهالي البحرين في تاريخهم عدة عرائض، كانت بين القبول والرفض، تمزج بين السياسية والطائفة.
المتتبع لتاريخ العرائض في البحرين ودورها في التأثير على الحكومة يجدها لا تخرج عن ثلاثة نماذج وهي: عرائض ذات طابع طائفي مستندة على دعم القوى العالمية واللعبة الدولية عرائض قائمة على مساندة التجار والقواعد الشعبية، وعرائض وطنية.
نرى أن النموذج الأول من العرائض تمثل في عرائض العشرينات من القرن الماضي، إذ جاءت هذه العرائض متزامنة مع التوجه البريطاني في الاصلاح في البحرين والمنطقة بأسرها، وذلك بتحويل الأنظمة القائمة على المشيخة والقبيلة إلى أنظمة مركزية.
ونظرا للتغيرات القادمة بدأت القوى السياسية والتي شكلت على أساس طائفي تتجه نحو إصلاح ما تراه مناسبا لها فقد توجه وفد يضم اثني عشر شخصا من وجهاء القبائل السنية برئاسة الشيخ التاجر عبدالوهاب الزياني إلى الشيخ عيسى بن علي في العام 1920، رافعين عريضة يطالبون فيها بتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع القضايا، وإسقاط القوانين المدنية والجنائية السارية في البحرين بقرار من الحكومة البريطانية في الهند العام 1914، وإقامة مجلس للشورى، وسحب اختصاصات السلطات البريطانية من دائرة الجمارك، لأنها أضرت بمصالحهم التجّارية، وقد استغل الشيعة فرصة التحولات السياسية والضغوط البريطانية، لرفع عريضة لحاكم البلاد الشيخ عيسى بن علي تضم مجموعة من المطالب منها: لا يحق لأحد سوى الحاكم الشيخ عيسى بن علي وابنه الشيخ حمد النظر في القضايا أو معاقبة الناس، لا يجر أي مواطن إلى المحكمة من دون علم مسبق أو اشعار رسمي من قبل الشيخ نفسه للمثول أمام القضاء، أن يحتفظ كل مزارع مستأجر ومضمن لمزارع الأسرة الحاكمة بنسخة من العقد مصدقة بشهود، مع الالتزام بعدم فرض أية شروط لا توجد في العقد، وقف السخرة وإلغاء العمل الإجباري لأصحاب الدواب، الاعتناء بالسجون وإصلاح أحوالها. واستجاب الشيخ عيسى بن علي لتلك العريّضة، وبدأ ينظر في مطالبها، وبعد أيام أصدر الشيخ بيانا تحت عنوان «إلى طالبين المطالب من رعايانا»، إذ وافق الشيخ على بعض المطالب كما سمح لهم بترشيح ثلاثة أشخاص ممثلين عن الطائفة في مجلس العرف.
أما النموذج الثاني فيتمثل في عرائض النصف الأول من ثلاثينات القرن الماضي، إذ تزعم التجار حركة المطالب معتمدين على مساندة القاعدة الشعبية لهم، وهذا يتضح في عريضة 1934، والتي رفعها مجموعة من ممثلي الشيعة وغالبيتهم من التجّار إلى حاكم البلاد الشيخ حمد بن عيسى، وأهم المطالب التي جاءت فيها: إصلاح محاكم البحرين، كما يجب على القاضي ذكر المصدر القانوني الذي يستند عليه في إصدار حكمه، أن يكون ممثلو الشيعة في مجلس البلدية والعرف مناسبا للنسبة السكانية للشيعة، المطالبة بحقهم في التمثيل في مجلس التعليم.
ولم يحصل الشيعة على ردود إيجابية لمطالبهم من قبل الحاكم الذي اكتفى بوعود عابرة عبر اجتماعات خاصة مع أصحاب العريضة.
أما العرائض الوطنية فقد بدأت مع حركة 1938 الإصلاحية وهي تعتبر امتدادا طبيعيا للحركة الوطنية التي قامت في الكويت ودبي، وهذه الحركات كانت نتيجة حتمية للحوادث التي شهدها الوطن العربي، وتأثرا واضحا بالحملة الإعلامية التي انطلقت من إذاعة قصر الزهور ببغداد ولاقت رواجا واسعا في الخليج. ولم تكن البحرين في منأى عن ذلك، فقد تحرك الوطنيون لتوحيد جهود السنة والشيعة لأول مرة في البحرين ضد النفوذ البريطاني، اذ عقدت بعض العناصر الوطنية اجتماعات خاصة، أبرز مَنْ شكّلها خليل المؤيد، أحمد الشيرازي، علي بن خليفة الفاضل، سعد الشملان، منصور العريّض، محسن التاجر، السيد سعيد، عبدالله أبوذيب، وقد أصدروا بعد الاجتماع عريضة تضم عشرة مطالب تتعلق بتشكيل مجلس للمعارف يتكون من ثمانية أعضاء أربعة من السنة وأربعة من الشيعة، تنحصر مهماته في الإشراف على العملية التعليمية، وإصلاح المحاكم وذلك بتغيير القضاة، وتشكيل هيئة قضائية مكونة من ثلاثة قضاة لكل محكمة، واحد سني وواحد شيعي والثالث تعينه الحكومة، وإصلاح المجالس البلدية وتعيين المواطنين بدلا من الأجانب، وتشكيل هيئة شعبية من ستة أشخاص ثلاثة من السنة وثلاثة من الشيعة لتمثيل الأهالي للتفاهم مع الحكومة في حال حدوث أي اختلاف أو سوء في المستقبل، تشكيل نقابة خاصة للعمال معترف بها رسميا من قبل الحكومة. لكن تلك العريضة النخبوية لم تقدم بشكل جدي إلى الحكومة بسبب تدخل القضاة وعلماء الدين من جانب، ومن جانب آخر انتشار الشكوك التي ساورت الطرفين، وقد سهل هذا الأمر للحكومة ضرب قيادات الحركة، اما عرائض الخمسينات فقد استطاعت الحصول على بعض المكتسبات بسبب انتظامها في صف وطني موحد بفعل التيارات القومية واليسارية وخمود التيار الديني، لكن الإنجازات التي تحققت لم تستمر ولم تتطور بسبب الانفلات الشعبي من جهة، والموازنات الدولية التي لم تخدم الحركة من جهة أخرى، كل ذلك ساعد على تقويضها.
من الملاحظ أن تلك العرائض والتي كانت قبل الاستقلال، تعتبر نخبوية لم يوقعها الجمهور، كما أنها تعرض كل المطالب بأنواعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في آن واحد، أما العرائض التي جاءت بعد ذلك فهي مغايرة تماما، إذ أشركت الجمهور من جانب، ومن جانب أخر حملت طابع التخصصية، واعتبرت عريضة التسعينات في البحرين والمطالبة بإعادة الحياة البرلمانية من أوائل العرائض الشعبية، لكنها جوبهت وحوصر متصديها بسبب قانون أمن الدولة.
ومع الحركة الإصلاحية لجلالة الملك وإعادة الحياة النيابية في البحرين أصبح للعرائض وضع خاص، إذ اعتبرت من الحقوق المشاعة للمواطن وفقا للمادة (23) من الدستور البحريني، والتي تنص على أن حرية الرأي والبحث العلمي مكفولة ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غيرهما، كما توافق على ذلك ميثاق العمل الوطني « لكل فرد أن يخاطب السلطات العامة كتابة وبتوقيعه، ولا تكون مخاطبة السلطات باسم الجماعات إلا للهيئات النظامية والأشخاص المعنيين»، ونظرا لذلك دشنت الجمعيات الأربع التي قاطعت انتخابات 2002 العريضة الشعبية في أبريل/ نيسان 2004، والتي عرفت «بوقع ثم وقع» وكانت مطالبها تنحصر في الجانب الدستوري والمتمثل في تفعيل دستور 73 العقدي، وإلغاء دستور 2002، ولهذا لم تجد هذه العريضة أي آذان صاغية على رغم مشروعيتها، فلم تفعل بعدها أي عريضة سياسية للحكومة، ليبقى التساؤل مطروحا: هل زمن العرائض السياسية في البحرين انتهى؟
وهل بدأ زمن عرائض النقابات والجمعيات المهنية واللجان الخاصة كلجنة العريضة النسائية لتؤسس منحى جديدا من تاريخ العرائض في البحرين.
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 1732 - الأحد 03 يونيو 2007م الموافق 17 جمادى الأولى 1428هـ