العدد 1732 - الأحد 03 يونيو 2007م الموافق 17 جمادى الأولى 1428هـ

دورة التلفيق الاستراتيجي في المنطقة

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

قدم الصحافي الأميركي البارز «سيمور هيرش» على قناتي «سي إن إن انترناشونال» و«الجزيرة الفضائية»، معلومات على قدر عال من الأهمية والحساسية، وذلك بشأن خلفيات تنظيم «فتح الإسلام»، وخصوصا فيما يتعلق بظروف التنشئة والدعم لتأسيس هذا التنظيم «الأصولي» العسكري في جنوب لبنان الذي تأسس - بحسب سيمور هيرش - من خلال اتفاق مسبق بين مسئول بارز في إحدى الدول العربية الكبرى، ونائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، ونائب مستشار الأمن القومي الأميركي اليوت برامز، وذلك بهدف التأسيس لمقارعة سنية طائفية لنفوذ «حزب الله» في الجنوب اللبناني باعتباره حزبا شيعيا مدعوما من إيران، إذ أصبح «حزب الله» وبعد حربه الأخيرة مع الكيان الصهيوني التي أثبت فيها قدراته البطولية العالية في إيقاع أفدح الخسائر بالقوات العسكرية والبنية الأساسية الصهيونية في مقام العدو الأول والتهديد الأكبر المحتمل أن يواجه الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يؤكد ضرورة عودة الإستراتيجية الأميركية من جديد إلى التعاون مع الدولة العربية الكبرى والتنظيمات الأصولية السنية والمسلحة في سبيل التصدي وعرقلة ووقف التهديد الذي يمثله الوجود «الشيعي» في المنطقة والمساند لـ «حزب الله» على مصالح الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني.

وتقوم بمقتضى هذا الاتفاق هذه الدولة العربية الكبرى بتمويل سخي لتنظيم «فتح الإسلام» المسلح بتأييد من الحكومة اللبنانية، عسى أن يتمفصل هذا الوجود التنظيمي المسلح في لبنان بالمساعدات وأوجه الدعم المختلفة تحت المظلة العربية والمظلة الصهيوأميركية الأكبر ومعها الحكومة اللبنانية المتواطئة، ليشكل بذلك حائط ردع طائفي يحقق عددا من المصالح المشتركة بين أصحاب الاتفاق تستهدف إثخان نفوذ «حزب الله» لبنانيا وإقليميا تمهيدا لعزله وشل قدراته على تشكيل أي تهديد للكيان الصهيوني والمصالح الأميركية، إذ إن السياسة الأميركية في المنطقة بكل بساطة تتمحور حول تأجيج العنف والاضطراب الطائفي كما يعلن عن ذلك «سيمور هيرش».

ولكن كالعادة انقلب السحر على الساحر وتقطعت خيوط المؤامرة بعواقب غير متوقعة حينما انقلبت جماعة «فتح الإسلام» على الحكومة اللبنانية وأصبحت في خضم مواجهة عسكرية مع الجيش اللبناني بعد أن كانت بالأمس تحظى بتأييد سخي من قبل الحكومة اللبنانية وحلفائها الدوليين وداعميها عربيا.

وكما هو متوقع سيقت الاتهامات المبتذلة من قبل عدد من الساسة اللبنانيين تجاه الدفع بتوريط سورية في دعم هذا التنظيم السلفي، وهي ذاتها التي تدعم «حزب الله»، فأصبحت سورية هي المشجب الذي يعلق عليه بعض الساسة اللبنانيين أردية تصريحاتهم البالية بمناسبة أو من دون مناسبة!

لو ثبتت صدقية هذه المعلومات المذكورة أعلاه التي قدمها «سيمور هيرش» وهو ذاته مفجر فضائح «سجن أبوغريب» و»غوانتنامو» من قبل، فإن مسلسل ارتكاب الأخطاء والحماقات الاستراتيجية ذاتها التي ارتكبت في ثمانينات القرن الماضي ومن قبل ارتكبت لتعزيز النفوذ «الأصولي» المتشدد على حساب النفوذ الماركسي والقومي العربي في مصر أثناء حكم السادات لتنتهي باغتياله لم ولن ينتهي في ما يبدو على المدى المنظور، فجزما لا يوجد هنالك أدنى تعلم واستفادة واستيعاب للعبر والمغازي والمخازي من وراء الوقوع في أخطاء استراتيجية فادحة لن يدفع ثمنها غاليا إلا شعوب المنطقة المنهوكة.

تلك أخطاء أو شعائر طقسية مستمرة دفع ثمنها غاليا أبرياء كثيرون بسبب أخطاء فادحة وتلفيقات استراتيجية لا تحمل من الرشد والرؤية البعيدة المتكاملة الجوانب الأساسية، وقد أشرفت على تمويلها وتنفيذها وإنجازها سابقا دول عربية كبرى في معارك الإيمان والإلحاد التي ذهبت فيها أرواح مقاتلين ومجاهدين إلى بارئها بحسن نية وظن في لعبة استراتيجية تتقاذف كرتها النارية الأمم حتى هذه اللحظة!

كما أنه وفيما يبدو أنه وبناء على هيكلية أنظمة الغنيمة العربية والظروف الموضوعية لنشأتها واستمراريتها الحالية فإن إعتاق المفاهيم والمحددات الاستراتيجية من دوامة الخضوع للمصالح الإمبريالية الصهيوالأميركية ولو على الأقل بصورة نسبية أقل من حيز المطلق واللامتناهي يبدو أمرا غير وارد، فتغذية أشكال الصراعات الثنائية والمتعددة أيا كانت درجة سخونتها بين محاور ومراكز الثقل في المنطقة مازال أمرا مستمرا ومتواصلا دونما أدنى تردد وانقطاع، طالما أن مفاهيم السيادة والمصلحة القطرية والقومية مازالت أسيرة التأويل المرجعي الاستراتيجي الأميركي، ولو كانت على الأقل هنالك مصالح مشتركة بين الجانبين المخطط والممول والمنفذ أو حتى خيوطا رقيقة تفصل بين جوانب المصلحة القطرية والقومية والمصلحة الإمبريالية الأميركية والصهيونية، فتضمن فتات مكاسب وحقوقا لهما بدلا من دفع أثمان التبعية الاستراتيجية العمياء من بنوك النفط والدم العربي المغرية في خدماتها!

وكما يحدث الأمر مع الموارد النفطية الغنية في المنطقة التي ظلت ولاتزال أسيرة الرهان الإمبريالي الأميركي بذراعه الصهيونية الضاربة في المنطقة، ولا يمكنها أصلا أن تتحرر من نار الاستخدام والاستغلال في مخططات قاصرة غادرتها البرغماتية والعقلانية السياسية المنظرة، لتعود آثارها الخطيرة والمدمرة إلى صدر منفذيها كما هو حاصل في كل مرة، وذلك بدلا من أن تستثمر مثل هذه الموارد بعوائدها الضخمة في مخططات إصلاح وتنمية وترقية معيشة لأوضاع شعوب المنطقة!

فأنظمة لا تكل من اللجوء إلى تبعية الجنون والمغامرات الإمبريالية الطائشة في المنطقة هي نفسها التي لطالما اتهمت «حزب الله» بالجنون والمغامرة، وقد عادت مرة أخرى بأمعيتها الاستراتيجية العمياء، والتي لن تجد دونها من خلاص وفكاك، إلى ارتكاب الأخطاء الجسيمة ذاتها بحق الاستقرار والسلام في المنطقة بتوظيف واستغلال واختراق أنشطة تنظيمات «أصولية» مصطنعة عسى أن تتغذى الشعوب المهمشة سياسيا من الملعقة ذاتها التي ذاقت بها أطعام الإرهاب والعنف الأعشى!

ويستحسن لأي متتبع وقارئ حصيف العودة إلى ظروف تاريخية سابقة لم تجن منها المنطقة وشعوبها ككل إلا الويل والدمار، وإن كادت تصل لقمة الثبور ذاتها إلى الحلقوم العربي الرسمي في مرات عدة، ومنها محطات الدخول في صراعات عسكرية مريرة مع الجار الإيراني عبر واجهة عراقية في معارك مدفوعة أثمانها سلفا، وقد أنهكت الجانبين وكبدتهما أفدح الخسائر وأوهم الانتصارات المزعومة في حرب الخليج الأولى، لتأتي الضربة الغادرة من جديد من قبل نظام صدام حسين (حارس البوابة الشرقية) الذي انقلب على مموليه وأصحابه السابقين بتشجيع حيادي أميركي معلن أوليا، فغزا الكويت وارتكب إحدى أكبر الحماقات الاستراتيجية عتوا في المنطقة التي مازال مسلسل دفع أثمانها غاليا بقواعد إمبريالية وفروع «أصولية» متشددة ما كان أن يكون لها شرعية دونما وجود تلك القواعد الاحتلالية في «جزيرة العرب»!

وتأتي حرب الخليج الثانية بكل عقابيلها المدمرة للمنطقة على كل المستويات، ويدخل العراق في طوق حصار دولي قاس ومشدد، ليتلوه تواطؤ إيراني واضح ومعلن مع حشود الإمبريالية الأميركية وحلفائها ضد العراق، وقد انطلق هو الآخر من منظور مصلحة قومية وبحدود ثأرية انتقامية ضيقة، لينهب العراق ويدخل في أشواط التصفية الطائفية والإثنية المدمرة من دون أفق محتمل للخروج من وضعه الراهن، وليصبح بفضل المغامرات الإمبريالية الطائشة مصنعا لتصدير «الإرهاب» إلى دول المنطقة وخصوصا دول الجوار، كما ساهم بشكل محموم في تأجيج التوترات الطائفية بالمنطقة على نحو خطير لا تحمد عقباه!

ويظل السؤال مطروحا بانتظار الإجابة: إلى متى سيستمر دوران التلفيق الاستراتيجي في المنطقة، ويلقي بآثاره المدمرة على مراكز الثقل الاستراتيجي في المنطقة ممثلاُ في الرياض وطهران وعلى القضية الفلسطينية المركزية، بدلا من أن تسود تفاهمات استراتيجية مشتركة تضمن أمن وسلام المنطقة عوضا عن أن يكون ثقل القواعد الإمبريالية في المنطقة هو الحكم والفيصل الاستراتيجي في المنطقة ولو كان تحت إمرة جنون المحافظين الجدد؟!

إلى متى سيستمر النهب في موارد وثروات وخيرات المنطقة لتوظف في خدمة المغامرات والمجازفات الامبريالية المجنونة وتدفع شعوب المنطقة أثمانها وبالا، عوضا عن الالتفات إلى خيارات الإصلاح والتنمية المستدامة من قبل دول المنطقة، كما أن المنطقة ما عادت تحتمل أثقال مشروعات وأطماع قومية تتوهم تغليب مركز ثقل استراتيجي على حساب المراكز الأخرى في المنطقة، والتي عاشت فيها شعوب المنطقة بهجراتها المتبادلة منذ أقدم الأزمنة قبل أن تكون القواعد الإمبريالية العسكرية حلما جهنميا يراود ذهنية استراتيجية؟!

إذا ما كانت هذه الأسئلة الحائرة هي أسئلة حالمة وغير واقعية، فهل من العقل والمنطق أن يلدغ أصحاب قرار التبعية الاستراتيجية والتنفيذ من الجحر الامبريالي ذاته أكثر من ألف مرة إن كانوا مؤمنين، وهل من مدى محدد لاختتام مسارات هذا السيل من المؤامرات المتبادلة بين أقطاب المنطقة في حق شعوب المنطقة؟!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1732 - الأحد 03 يونيو 2007م الموافق 17 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً