العدد 1731 - السبت 02 يونيو 2007م الموافق 16 جمادى الأولى 1428هـ

إدارة المياه الجوفية في دول مجلس التعاون... التشريعات المائية في الإسلام (5)

وليد خليل زباري Waleed.Zubari [at] alwasatnews.com

وليد خليل زباري

استعرض المقال السابق موضوع «الاعتبارات التشريعية» المطلوبة لتنظيم استخدام المياه الجوفية في دول المجلس وتقييد الأنشطة التي قد تعرض كميات المياه الجوفية المتاحة ونوعيتها للخطر على اعتبار أنها من أكثر العناصر أهمية في عملية تخطيط وإدارة الموارد المائية الجوفية، وتبين أن هذه الاعتبارات لم تحظ بالاهتمام الكافي في عملية تخطيط وإدارة المياه الجوفية في دول المجلس، وبأن التشريعات الحالية في معظم هذه الدول مجزئة وليست ضمن إطار تشريعي شامل ومتكامل، بالإضافة على عدم تطبيق غالبيتها. كما تم استعراض تطور التشريعات المائية وأصولها في دول العالم بشكل عام، وبأنه حتى وقت قريب كانت هذه التشريعات تعطي صاحب الأرض الحق المطلق لاستخدام المياه الجوفية الواقعة تحت أرضه وتمكنه من سحب أية كميات يريدها من المياه الجوفية حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بالآخرين، إلا أنه حاليا قد تم التخلي عن هذا المبدأ في الكثير من دول العالم، وتم استحداث قوانين وتشريعات متكاملة وشاملة تسمح للدولة والمسئولين فيها بالتحكم في الكميات المسحوبة من المياه الجوفية واتخاذ كل الإجراءات المطلوبة لحمايتها واستدامتها. وتم بناء ذلك على اعتبار المياه الجوفية ملكية عامة تمتلكها الدولة، وتكون مؤتمنة على إدارتها والمحافظة عليها نيابة عن المجتمع. وتسند مهمة حمايتها من سوء الاستخدام والتلوث والنضوب إلى جهة مختصة في الدولة، تعطى لها الحقوق القانونية في اتخاذ الإجراءات التنظيمية اللازمة لمنع ذلك.

وإذا نظرنا إلى التشريعات المائية في الإسلام، فسنجد أن الماء قد احتل مكانة كبيرة جدا في الدين الإسلامي الحنيف، فهو أساس الحياة ويعتبر نعمة من نعم الله على خلقه لاستمرار الحياة «وجعلنا من الماء كل شيء حي» ولينتفعوا بها ويشكروه عليها، وهو مرتبط بركن من أهم أركان الإسلام وهو الصلاة، ويحتل «باب الماء» الباب الأول من أبواب الفقه الإسلامي (1)، ولقد تم ذكر الماء في أكثر من خمسين آية وأكثر من أربعين سورة في القرآن الكريم، تركز معظمها على أهمية تقنين استعمال المياه والمحافظة عليها واستغلالها استغلالا رشيدا لصالح المجتمع.

ويعتبر الماء في التشريع الإسلامي متاح للناس جميعا يشتركون في الانتفاع به (الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)، وقد تم ترتيب أولويات استخدامه لشرب الإنسان، وثم لشرب الحيوان، وثم سقيا النبات. ويقسم فقهاء الشريعة الإسلامية المياه من حيث تملكها إلى أنواع عدة (2)، من أهمها: أولا: المياه المحرزة، وهي التي يحرزها الإنسان في وعاء أو حفرة أو بتركيب هندسي معين في الأرض التي يمتلك، وتكون هذه المياه المحرزة ملكه وله الحق في استغلالها بالشكل الذي يريد وبيعها وتمليكها ومنع الغير عنها؛ ثانيا: المياه المباحة أو العامة، وهي مياه الأنهار والأودية والعيون وسيول الأمطار، ويشترك فيها الناس ولهم حق الانتفاع بها بشرط أن لا يكون الانتفاع الشخصي فيه ضرر على عامة الناس؛ وثالثا: المياه المستخرجة والظاهرة في الأرض المملوكة، ويعتبر العلماء الماء الذي يستخرجه صاحب الأرض المملوكة له، سواء كان عينا طبيعية أو بئرا لا يكون ملكا لصاحب الأرض، ولكنه أحق بالانتفاع به من غيره، ويجب عليه أن يترك ما زاد لديه للغير لأنه مباح في الأصل، كما أن الرسول (ص) قد نهى عن بيع فضل الماء، ولذلك فإن ما لا يجوز بيعه لا يصح تملكه، إضافة إلى أن المياه الجوفية تجري من تحت الأرض وليست من ضمن مشمولاتها. كما تحدد التشريعات الإسلامية مساحة من الأرض المجاورة للماء النابع (المياه الجوفية) أو الجاري (المياه السطحية) تسمى بحريم الماء، وهي منطقة حمى لهذا المياه لا يسمح بأي أنشطة فيها من شانها أن تؤثر على المياه النابعة والجارية (3). وتعطي الشريعة الإسلامية الحاكم، أي الدولة، الحق في إصدار التشريعات المائية المناسبة التي من شانها أن تحافظ على المياه، بشرط أن لا تتعارض هذه التشريعات مع النصوص الإسلامية الثابتة (1).

وبمقارنة المبادئ التي توصل لها مؤخرا الفكر العالمي في مجال ملكية المياه وحقوق استخدام المياه وتنظيمها مع هذه المبادئ الإسلامية، سنجد أنها أتت متناسقة ومتماشية معه، وفي الحالتين يتم اعتبار الموارد المائية الجوفية من الأملاك العامة للدولة، وبأن تراخيص استخراج المياه الجوفية واستخدامها هي من مسئولية الأجهزة المسئولة في الدولة، وبأن تراخيص حفر آبار المياه في الأراضي الخاصة لا تعني ملكية المياه الجوفية وإنما الحق في استخدامها. ويمكن أن تصدر أو تمنع عن صاحب الأرض، إذا ما كان استخدامه لهذه المياه يتعارض مع المصلحة العامة. ولذلك، فإن إصدار تراخيص استخدام المياه الجوفية يجب أن يكون مبنيا على معايير معينة من أهمها عدم تجاوز طاقة المياه الجوفية من جهة بما يؤدي إلى تدهورها، والاستخدام الكفء والمفيد لهذه المياه وبحيث لا يتم هدرها أو بيعها بعد الحصول على حق استخدامها من جهة أخرى، كما يجب ألا تكون حقوق استخدام المياه أبدية، ما يتطلب المراجعة الدورية وتقييمها بشكل مستمر للتأكد من تحقيقها لهذه المعايير. وفي هذا المجال يعتبر صاحب البئر غير المرخص بمثابة السارق لأموال الدولة والمجتمع ككل، وتتم محاسبته بناء على ذلك.

إلا أن الواقع الحالي في معظم دول المجلس في مجال هذه التشريعات لا يرتقي إلى المستوى الأدنى من هذه المبادئ سواء الإسلامية منها، والتي من المفترض أن تكون السائدة في هذه الدول، أو تلك العالمية المشابهة لها. ففي العديد من هذه الدول يتم إصدار التراخيص بدون النظر إلى طاقة المياه الجوفية، وضمن معايير جدا ضعيفة ولا يتم مراجعتها بشكل دوري، ونجد في بعض الدول عمليات بيع للمياه الجوفية المرخصة أصلا للنشاط الزراعي من قبل ملاك أصحاب الآبار إلى الأنشطة الصناعية والبلدية، كما أن مشكلة حفر الآبار غير المشروعة يتم التساهل معها بشكل مثير للدهشة وبدون اكتراث لهذه الثروة الوطنية، ومازال بمقدور ملاك الآبار سحب المياه الجوفية بأي شكل يرونه وبأي كمية يحتاجونها ولأي غرض يريدونه، ولا يتحملون أدنى مسئولية عن حجم الأضرار التي يمكن أن يسببها ذلك للمياه الجوفية المحيطة لأراضيهم أو للخزان المائي الجوفي بشكل عام.

ولذا، فإنه من الأهمية بمكان لرفع مستوى وكفاءة إدارة المياه الجوفية في دول المجلس هو أن يتم تحديث التشريعات المائية المتعلقة بهذه الموارد لتصبح تشريعات شاملة ومتكاملة ومبنية على أسس ومبادئ الشرع الإسلامي. وقد يكون الموضوع الأهم الذي يجب التركيز عليه في هذه التشريعات هو اعتبار المياه الجوفية «ثروة وطنية» وإدارتها على أنها «ملكية عامة»، وبالتالي استرجاع ملكية المياه الجوفية والآبار من أصحاب الأراضي، ومن ثم مراجعة حقوق استخدام هذه المياه بناء على المعايير المذكورة أعلاه. وبالطبع ينبغي إعطاء أولوية استخدام المياه لملاك الأراضي القائمة حاليا ولكن مع النظر في وضع التعرفة المناسبة لاستخدام هذه المياه، ليس بهدف استدامة الموارد المائية فحسب بل لزيادة كفاءة استخدامها. وسيتطرق المقال المقبل لموضوع الأدوات الاقتصادية كمحفز لكفاءة استخدام المياه الجوفية واستدامتها لخدمة المجتمعات الخليجية.

المراجع

1. عبدالمحسن عبدالرحمن آل الشيخ، 2002، تخطيط موارد المياه وتطبيقه في الوطن العربي. جامعة الملك سعود، المملكة العربية السعودية.

2. عبدالله مختار يونس، 1987، الملكية في الشريعة الإسلامية ودورها في الاقتصاد الإسلامي. مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، مصر.

3. عبدالعزيز المصري، 1999، قانون المياه في الإسلام. دار الفكر، دمشق.

إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"

العدد 1731 - السبت 02 يونيو 2007م الموافق 16 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً