تجدد المعارك على ضفاف مخيم «نهر البارد» يشير إلى بديهة سياسية وهي فشل الحكومة في التوصل إلى حل سلمي للازمة التي انفجرت بعد إقدام مجموعات من تنظيم مجهول الهوية على مباغتة مخافر الجيش اللبناني وذبح الجنود بالسكاكين.
الفشل السياسي أعطى إشارة لعودة الكلام عن الحسم العسكري. والفشل جاء بعد مفاوضات علنية وسرية دامت 11 يوما رفضت خلالها «فتح الإسلام» تسليم العناصر المسئولة عن مذبحة السكاكين، كذلك رفضت الفصائل المنشقة عن منظمة التحرير الفلسطينية التجاوب مع خطة عمل ميدانية تقضي بإعادة تسليم أمن المخيمات للفصائل الكبرى.وبسبب وصول المفاوضات إلى طريق مسدود سياسيا اتخذ قرار الحسم العسكري الذي يضع البلاد أمام استحقاقات خطيرة في حال فشل الجيش في تحقيق أهدافه في أسرع وقت.
عامل الوقت مهم ؛لأنه يقطع الطريق أمام تدخلات دولية وإقليمية ويمنع احتمال امتداد العنف إلى خارج نطاق «نهر البارد». ولكن المشكلة التي تواجه الجيش عويصة في تداخلاتها اللوجستية والديموغرافية وطبيعة المعركة التي يخوضها ضد طرف هلامي غير معروف الهوية والعنوان.
الحسم العسكري ليس سهلا ومن الصعب تصور حصوله في يومين أو ثلاثة أيام، وذلك للأسباب الثلاثة التي ذكرت. لوجستيا لا يملك الجيش اللبناني تلك المعدات والأسلحة النوعية التي تساعده على حسم معركة في مدة قصيرة زمنيا. والفارق النوعي بين الطرفين ليس كبيرا وخصوصا أن ما يسمى «فتح الاسلام» يتحصن في مواقع وامكنة متحركة وغير ثابتة ويعتمد على أسلحة دفاعية تستطيع تعطيل تقدم الآليات الثقيلة.
ديموغرافيا لا يستطيع الجيش تحمل مسئولية القصف العشوائي على مراكز متنقلة لان مخاطر إصابة السكان المدنيين تزداد نسبتها وهذا ما يراهن عليه تنظيم «فتح الإسلام». فاستدراج الجيش إلى معركة مفتوحة وطويلة يرفع الغطاء السياسي الدولي والعربي وربما المحلي ويكشف من جديد ذاك الضعف العام.
وتلعب طبيعة المعركة دورها الثالث في الحد من إمكانات نجاح خيار الحسم العسكري. فالمواجهة تدور بين قوات نظامية متدربة على نمط معين من القتال بينما التنظيم الهلامي لا يعرف عنه سوى القليل ويستطيع التسلل والانتقال والانسياب في أحياء المخيم والانكفاء إلى داخله والاختفاء في الأزقة ثم معاودة الهجوم أو تسديد ضربات بالتعاون مع قوى منشقة عن منظمة التحرير،ومصلحتها تقضي بمنع الجيش من تسجيل نقاط لمصلحته.
المواجهة إذا ليست بسيطة وهي في جوهرها سياسية وتتجاوز موازين القوى بين طرفين: الأول واضح المعالم ومحكوم بسقف يمنع عنه تجاوز صلاحياته وتعريض حياة المدنيين للخطر. والثاني مجهول المعالم وغير محكوم بأي سقف سياسي ويتصرف بأسلوب عشوائي لا يقيم أي اعتبار للناس وسكان المخيم وضواحيه وضفافه.
نتيجة هذه التوازنات السلبية يرجح أن تأخذ معارك «نهر البارد» أكثر من الأيام الثلاثة التي حددتها قيادة الجيش كذلك لا يستبعد أن تكون الكلفة المادية والبشرية أعلى من تلك التي قدرتها المراجع العسكرية المسئولة عن إدارة المواجهة. فالمعركة لها طبيعتها الخاصة تلعب دورها في تقنين المواجهة، ولكنها قد تفتح الباب أمام احتمال توسع دائرة الصراع باتجاه الضغط للعودة إلى ترجيح الحل السياسي. وبما أن الحل السياسي مشروط بمطالب حددتها قيادة الجيش ورفضت «فتح الإسلام» التجاوب معها مدعومة بفصائل منشقة عن فتح ومنظمة التحرير فإن احتمال التوصل إلى مخرج سياسي تصبح أكثر صعوبة من التوقعات المنظورة.
لبنان إذا أمام امتحان صعب يهدد كيانه (دولة ومقاومة) في حال فشل الحسم العسكري في تحقيق أهدافه وأيضا في حال انغلاق الأبواب أمام العودة إلى الحل السياسي. وهذه النتيجة السلبية هي بالضبط ما حاولت جهات محلية التحذير منها حين نبهت إلى خطورة الوضع وعدم التهور والتورط في حرب استنزاف (حرب مخيمات) تضعف آخر مؤسسة وطنية تعتمد عليها الدولة. وسيناريو الصراع على المخيمات يفتح الباب على احتمالات كثيرة محلية وإقليمية ويرشح قوى مختلفة لممارسة نفوذها واستخدام الفلسطينيين ورقة ضغط.
حتى الآن لم تنته المعركة ويرجح أن تأخذ مداها الزمني لأن الطرف الذي خطط ونفذ مذبحة السكاكين ضد الجنود الأبرياء تعمد اللجوء إلى هذا الأسلوب البشع لاستدراج الجيش إلى ردة فعل غير محسوبة. فمن اتخذ قرار فتح المعركة لابد أنه استعد لها ودرس كل مفاعيلها وردود فعلها وأدرك أن المحصلة لن تكون في نهاياتها لمصلحة الدولة اللبنانية؟
هناك بعض الوقت للحكم على النتيجة وصوابية القرار ومدى نجاحه. ولكن في حال وصلت المواجهة إلى محصلة سلبية وفشل الجيش في الحسم العسكري وفشلت الحكومة في العودة إلى الحل السياسي الذي يرضي المؤسسة العسكرية فإن سيناريوهات الفترة الفاصلة بين العامين 1968 و1975 تصبح هي المرشحة للتكرار والانتشار.
عودة إلى الذاكرة
في تلك الفترة التي تلت حرب يونيو/ حزيران 1967 و سبقت انفجار الحروب الأهلية/ الإقليمية فوق الساحة اللبنانية، حصلت المواجهات نفسها بين الجيش والفصائل الفلسطينية انتهت في كل مرة إلى تقديم تنازلات سياسية من جانب الدولة وصولا إلى تفككها وانهيارها. والمتابع لتطورات تلك الفترة يدرك خطورة الوضع على رغم اختلاف الظروف الدولية والعربية والإقليمية والجوارية والمحلية. الظروف اختلفت لاشك كذلك عناوين المعارك وأسماء الفصائل إلا أن آليات المواجهات حافظت على قوانينها العامة.
آنذاك حصلت مناوشات في قرى منطقة العرقوب في الجنوب انتهت بخروج المخافر اللبنانية من الحدود لمصلحة الفصائل الفلسطينية التي اتخذت من تلك الزاوية الجغرافية مراكز وممرات أطلقت عليها وسائل الإعلام الغربية «فتح لاند». وأرض فتح هذه تحولت مع الأيام إلى بؤرة ثورية (أمنية) أخذت تتسع جنوبا مستفيدة من الضعف العربي وغياب الدولة وعجز القوى المحلية على التوصل إلى صوغ استراتيجية دفاعية تحمي قرى الحدود من الغارات الإسرائيلية.
بعد «فتح لاند» تطورت الاحتكاكات بين الجيش والفصائل وأخذت تشهد المناطق مواجهات متنقلة من مخيم الرشيدية في صور إلى مخيم عين الحلوة في صيدا إلى مخيم نهر البارد في الشمال وصولا إلى مخيم البداوي في طرابلس. وأدت مجموع هذه الاحتكاكات إلى تراجع الجيش اللبناني وقبوله بالانسحاب من مواقعه في المخيمات إلى خارجها. واستمر التراجع إلى أن أخذت البؤر الأمنية بالامتداد إلى المدن الأمر الذي استدعى مواجهات كبيرة أدت إلى تدخل مصر جمال عبدالناصر وتوقيع اتفاق في القاهرة تضمن فقرات سرية تقضي بترك أمن المخيمات الفلسطينية تحت إشراف وإدارة فصائل منظمة التحرير.
توقيع اتفاق القاهرة يعتبره الكثير من المحللين بداية نهاية الدولة اللبنانية ؛لأنها وافقت على التنازل عن سيادتها على بعض المناطق التي تقع داخل مساحة الجمهورية. وهناك من يعتبر الاتفاق خطوة حاسمة نحو انهيار منظومة العلاقات الأهلية وتدهورها باتجاه الاقتتال الداخلي.
بعد اتفاق القاهرة جاءت حوادث سبتمبر/ أيلول 1970 في الأردن ونجاح الدولة هناك في محاصرة المنظمات الفلسطينية وسحب سلاحها أو طردها إلى الخارج (لبنان). ومنذ تلك الفترة تحول البلد الصغير إلى ساحة صراع للقوى الدولية والإقليمية والجوارية بسبب انتقال ثقل منظمة التحرير السياسي والإعلامي والدبلوماسي من عمّان إلى بيروت.
ساهمت حوادث الأردن التي ترافقت نهاياتها السياسية مع غياب عبدالناصر في تحويل بيروت إلى عاصمة سياسية ودبلوماسية لمنظمة التحرير الأمر الذي أعطى قوة زخم للمخيمات الفلسطينية المنتشرة في الشرقية والغربية امتدادا إلى الضاحية الجنوبية من العاصمة. وهكذا انتقلت الاحتكاكات من الأطراف في الجنوب والشمال إلى المركز وتحولت بيروت إلى خط نار يفصل الأحياء عن بعضها إلى أن وقعت مواجهة كبيرة في عهد الرئيس السابق سليمان فرنجية.
معارك مايو/ أيار 1973 كانت كبيرة وأخيرة للجيش اللبناني حين استخدم فيها كل ما يملكه من معدات وآليات ثقيلة وطيران حربي وانتهت إلى فشل الدولة في اقتحام المخيمات (صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة) وانسحاب قواته إلى الضفاف والمحيط وثم تراجعه الداخلي أمام اتساع دائرة البؤر الأمنية وانتشارها داخل أزقة وأحياء العاصمة.
أدى التحوّل في التوازن العسكري إلى محصلة سلبية تطورت لاحقا إلى نوع من الثنائية السياسية مهدت الطريق إلى اندلاع تلك الحروب الأهلية في العام 1975 فاتحة الباب أمام تدخلات إقليمية. فتدخلت سورية أولا بقرار عربي/ دولي في العام 1976 ثم تدخلت «إسرائيل» ثانيا بقرار أميركي في العام 1978 الحقته بغزو كبير في عهد الرئيس رونالد ريغان في العام 1982. وانتهى الاحتلال الإسرائيلي آنذاك بإخراج قوات منظمة التحرير من بيروت وارتكاب مجزرة «صبرا وشاتيلا» واستمرار الغزو في أشكاله المتنوعة إلى العام 2000 حين نجح حزب الله في طرده من الجنوب اللبناني.
هذه السيناريوهات عادت إلى الذاكرة حين بادر تنظيم مختلق ومصنوع من خلايا وشبكات وأجهزة مخابرات إلى شن هجوم مباغت وذبح جنود بالسكاكين لاستدراج الجيش إلى مواجهة مفتعلة وغير محسوبة النتائج.
لبنان الآن وكعادته في وضع صعب للغاية. فالدولة مضطرة أن تسجل نقطة لمصلحتها لتحسن موقعها الضعيف في لعبة الأقوياء فهي لا تستطيع التنازل، ولكنها فشلت في التفاوض. وهذا بالضبط ما حصل في سنوات 1968 و1969 و1970 و1973. الآن وبعد الدخول في خيار الحسم العسكري لم يعد أمامها من حل سوى النجاح في مهمتها وبأسرع وقت. وفي حال لم تتوصل الدولة إلى هذه النتيجة الحاسمة تصبح الاحتمالات مفتوحة أمامها منها تقديم تنازلات سيادية لتنظيم مجهول الهوية والبدء في التراجع أمام انتشار بؤر أمنية لا يعرف من يديرها ويشرف عليها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1731 - السبت 02 يونيو 2007م الموافق 16 جمادى الأولى 1428هـ