اتخذت الإدارة الأميركية سلسلة تدابير ضد السودان. وتعهد الرئيس جورج بوش بالعمل على إصدار قرار جديد في مجلس الأمن بشأن إقليم دارفور، وأمر بفرض عقوبات قاسية ضد 31 هيئة اقتصادية، وطالب بمنع تصدير الأسلحة.
لماذا السودان الآن؟ هذا السؤال طرح في وقت كان ينتظر من بوش ان يعلن سلسلة تدابير ضد ايران وسورية بذرائع اصبحت معروفة، ولكنه فجأة استدار من الشرق إلى الغرب ووجه سهامه وانتقاداته وغضبه ضد حكومة الخرطوم.
هذا الالتفاف ليس حركة رياضية أو خطوة تتطلبها تمارين اللياقة البدنية. المسألة يجب قراءة جوانبها الالتفافية في السياسة. هناك احتمالات كثيرة يمكن رصدها لفهم المعاني التي أراد بوش إطلاقها بهذا الشأن. مثلا هل اعتبر أن مهمته «الحضارية» في العراق أنجزت أو هي في طريقها إلى الانتهاء؟ وهل اعتبر ان معركته الديمقراطية في لبنان شارفت على وضع اللمسات الأخيرة لنهاية العرض المسرحي؟
الفرضية الأولى تعني أن واشنطن توصلت الى تفاهمات مع إيران بشأن ترتيب الملف العراقي بالتعاون مع بريطانيا. والفرضيةالثانية تعني أن واشنطن توصلت إلى تفاهمات مع سورية بشأن ترتيب الملف اللبناني بالتعاون مع فرنسا ساركوزي.
الفرضيتان تفسران إلى حد معين هذا القفز الأميركي من العراق ولبنان إلى السودان. فعملية الالتفاف تحاول ذر الرماد في العيون ومنع الرؤية بتحويل الانتباه من بلاد الرافدين وبلاد الارز إلى حوض وادي النيل. وظهور هذا «الفزعة» السودانية في خطاب بوش أمس الأول تعبر عن وجود توجهات أميركية بتركيز الثقل السياسي واستخدام ورقة دارفور للضغط ليس على حكومة عمر البشير فقط وانما على مصر أيضا.
إقليم دارفور ليس مسألة تتصل بوحدة السودان وسيادته وانما تمس في جانب من جوانبها أمن مصر القومي وخصوصا أن القاهرة بدأت تواجه في الفترة الأخيرة مشكلات داخلية تتعدى الأمن السياسي. فالحوادث الطائفية التي افتعلت في الاسكندرية والصعيد وبعض الأحياء في القاهرة تتجاوز الإطار السياسي للأمن وترسل إشارات ساخنة باتجاه زعزعة الثقة بين الأطياف التي يتشكل منها نسيج المجتمع.
استدارة بوش من الرافدين إلى النيل جاءت بعد ساعات من انتهاء اللقاء الأميركي - الإيراني حول طاولة رئيس الحكومة المتعامل مع الاحتلال نوري المالكي. وجاءت أيضا قبل ساعات من اتخاذ مجلس الأمن قراره المنتظر بشأن «المحكمة ذات الطابع الدولي» فهل تعني الاستدارة السياسية أن أميركا بدأت تتعامل مع الملفين العراقي واللبناني في صيغة الماضي، أم أن هناك حركة التفاف لإلهاء العامة وشد انتباهها إلى زاوية جديدة في مشروع «الشرق الأوسط» الجديد؟
لا تعرف حتى الآن المقاصد الأميركية من وراء هذه «الفزعة» السودانية ولكن متابعة الإجراءات الميدانية تكشف جوانب مستورة من تحولات سياسية يرجح ان تشهدها الساحات العربية والإقليمية في الأسابيع والأشهر المقبلة.
في العراق بدأت بعض معالم الصورة تتضح من تحت شظايا بلاد الرافدين ورمادها. كذلك أخذت تتمظهر صورة «لبنان الجديد» بعد تنفيذ قرار تحطيمه وبعثرته تمهيدا لتأسيس «فيديراليات ديمقراطية» على غرار تلك التي استقرت نسبيا في العراق.
طبعا المسألة العراقية لن تنتهي بهذه السهولة كذلك اللبنانية. فالواقع في البلدين معقد ومتداخل ومتشابك ولا يكفي أميركا أن تتوافق مع هذا الطرف اوذاك لحل مشكلاتها. التفاهم الأميركي مع إيران يسهل بعض مهمات واشنطن في إدارة أزمة الاحتلال ولكنه ليس بالضرورة يساعد على احتواء الوضع واستيعاب تداعياته في مختلف مناطق العراق. كذلك التفاهم الأميركي مع سورية يسهل مهمات محددة تريدها واشنطن من بلد منهك القوى ومتشرذم الولاءات ولكن لا يكفي لاحتواء مشكلات بلد صغير تتداخل فيه الكثير من التوترات الطائفية والمذهبية الممتدة جواريا وإقليميا.
«فيديراليات ديمقراطية»
هروب بوش إلى إقليم دارفور يغطي جوانب من اخفاقاته ويظهره بصورة المنتصر القادر على الانتقال بخفة من مكان إلى آخر والالتفاف بسهولة من زاوية إلى أخرى. ولكن الهروب الذي أطلق الرئيس الأميركي شرارته الأولى في خطابه أمس الأول لن يعفي واشنطن من مسئولية الدمار والخراب وتقويض الدول وتركها منقسمة أهليا لإعادة توزيعها في إطار تفاهمات إقليمية.
اخفاق بوش كما يبدو من المشاهد الأخيرة مسألة نسبية وقياسية. فهو يرى أن المهمة الأساسية نفذت بنجاح وما يريده من الخطة ألف (أ) تمت ترجمته على الأرض (تحطيم الدولة وتخريب العمران). اما الخطة باء (ب) فهي قابلة للتفاهم والأخذ والرد مادام المشروع الأساسي جرى على أفضل سيناريو يمكن أن تنتجه استديوهات هوليوود.
بوش الآن بدأ يرسم ملامح الانتقال من الخطة ألف إلى الخطة باء أي من مشروع التقويض والتحطيم والتشليع إلى مشروع التفاهم وتوزيع الحصص. ومرحلة الانتقال من التدمير والتفكيك إلى مرحلة تقاسم الحصص ليس بالضرورة ان تمر بسهولة ومن دون تشنجات ونزاعات أهلية وإقليمية على مواقع النفوذ.
لنأخذ العراق نموذجا. في هذا البلد المحطم نشهد تلك الصور المتخالفة إقليميا ومحليا. فالدول العربية الصديقة تقليديا للولايات المتحدة ترفض الاعتراف بالاحتلال وتمانع في تعزيز سلطته المتمثلة في حكومة المالكي، بينما الدول الإقليمية التي تقول انها ضد سياسة أميركا في المنطقة تتعاون مع الاحتلال أمنيا وتعترف بحكومة المالكي وتدعمها وتتعامل معها. هذا التناقض الغريب يطرح أسئلة عجيبة ستظهر معالمها المشوهة في تنويعات سياسية يطلق عليها «فيديراليات ديمقراطية». ولا شك في أن هذا «التناقض الغريب» أضعف الدور العربي في بلاد الرافدين وأعطى فرصة لطهران لتحسين شروط تفاوضها مع الاحتلال من خلال الالتقاء على دعم حكومة المالكي.
هذا الجانب الإقليمي/ الدولي سيكون له انعكاساته المحلية الطائفية والمذهبية والاقوامية والمناطقية وكل أطياف ونسيج العراق السياسي. فالتعارض الذي بدأ اقواميا في جانب منه وطائفيا في الجانب الآخر يرجح أن يتنوع سياسيا ويتحول إلى مجموعة تعارضات داخل الطائفة أو المنطقة نفسها. الكانتون الكردي في الشمال يرجح أن يتعرض للاهتزاز بسبب انقساماته الداخلية المعطوفة على النفوذين التركي والإيراني. والفيديرالية في الجنوب يرجح أن تتزعزع بسبب التعديلات في بنيتها السكانية الأهلية والسياسية وتوزع الولاءات في الطائفة الواحدة. والأمر نفسه يمكن أن نتوقعه في فيديرالية الغرب (السنية) أو الوسط المختلطة بالطوائف والمذاهب وخصوصا في أحياء بغداد والمناطق المحيطة بها.
المشهد العراقي إذا لن يختفي عن الشاشة الدولية بل يرجح أن يعاد إنتاجه بصور ملونة تختلف عن تلك الألوان التي ظهر فيها خلال مرحلة تفرد الاحتلال الأميركي بالقرار.
لبنان أيضا يمكن أن نأخذه نموذجا. فما حل به في الجنوب خلال فترة عدوان الصيف الماضي لا يمكن فصله عما يحصل به الآن في الشمال بالقرب من الحدود السورية وعلى ضفاف «مخيم نهر البارد». وما افتعلته شلة «فتح الإسلام» يشكل بداية ثغرة أمنية يرجح أن تتدحرج إلى الجنوب في حال فشلت الدولة في حسمها سياسيا. وهذا الاحتمال أصبح واردا بعد ظهور انقسامات في مواقف اللبنانيين وتعارضات في مواقف الفصائل الفلسطينية. وإذا استمر هذا الأمر يتأرجح داخليا وإقليميا يصبح اتساع الثغرة من الاحتمالات المطروحة بقوة خصوصا بعد أن ربط وزير الخارجية وليد المعلم تشكيل «المحكمة الدولية» بالأمن السوري معتبرا ان القرار بهذا الشأن يشكل تهديدا على الأمن القومي. كلام المعلم لا يأتي من فراغ فهو اجتمع منذ فترة مع وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس واصفا اياه بـ «العملي» بعد انتهاء اللقاء. والوصف نفسه استخدم بعد انتهاء الاجتماع الإيراني - الأميركي في بغداد.
المشهد اللبناني أيضا لن يختفي عن الشاشة الدولية بل يرجح أن يعاد إنتاجه بصور ملونة لا تختلف كثيرا عن تلك «الفيديراليات الديمقراطية» التي أسسها الاحتلال الأميركي في العراق.
هروب بوش إذا من بلاد الرافدين وبلاد الأرز إلى حوض النيل ليس حركة رياضية وإنما له معناه السياسي. فهو يعطي إشارات لعملية بدء الانتقال من الخطة ألف إلى الخطة باء. ومثل هذه الاستدارة تحتاج إلى خطاب ناري ضد السودان لشد الانتباه وذر الرماد في العيون... وربما تفجير قنبلة دخانية في حديقة مصر الخلفية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1728 - الأربعاء 30 مايو 2007م الموافق 13 جمادى الأولى 1428هـ