الكثير من الإخوة الخليجيين وخصوصا الكويتيين لا ينفصمون وينفكون عن طرح الأسئلة المقرونة بالتعجب والاستغراب عن سر تلك العرى الوثيقة التي تربط بين البحرين والعراق، ودعك عزيزي القارئ من الإرث الملحمي المشترك بين الرومانسيات التاريخية وقصص الاغتراب والهجران بين البلدين الشقيقين ضمن المنظومة العربية والإسلامية.
ولكن المعني بصورة أكبر من كيل الدهشة والفضول هو سمة التشابه والوثاقة، ولو بفوارق نسبية ملحوظة بين الاتجاهات المتفاقمة والمشتركة للحراك المجتمعي السياسي الداخلي في البحرين والعراق حاليا، إلى حد أمكن القول تندرا إنه بات ملحا وضروريا العمل على استحداث خط أنابيب بحرينية - عراقية مشتركة لاستيراد تفاعلات الطاقات و «الطقات» الاجتماعية السياسية من العراق، وذلك على غرار دعوة وجهها أحد الإخوة الأعزاء إلى تصميم أنابيب موصولة لاستيراد الغاز والماء من إيران كما هي أنابيب النفط، وذلك تعليقا على أزمة انقطاعات الماء المتواصلة كثيرا في البحرين!
تأتي هذه الأسئلة في وقت كانت فيه البحرين بالنسبة إلى الأشقاء الخليجيين، وتحديدا في عقود مضت، أنموذجا للحرية والتعددية والوحدة الوطنية والتحضر الاجتماعي السياسي المدني تحت لواءات يسارية وقومية وطنية متعددة، فما الذي جرى وتغير في البحرين، وجعل من الطائفية فضيلة خلقية مجتمعيا ومنقبة سياسية في هذا البلد؟
«لماذا تزداد أوضاعكم سوءا وترديا؟»، «أين واجب الدولة في معالجة تلك النُعرات اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا والعودة بكم إلى أجمل الأيام الوطنية الماضية؟»، «نأتي بلادكم عسى أن نقتدي بكم فإذا أنتم أسوأ منا وضعا ومرضا»، «هل ترضى الدولة على شعب البحرين أن ينجر إلى أتون احترابات طائفية لا أول لها ولا آخر؟»، «هذا أمر غير مقبول من البحرينيين وغير مرضي السكوت عن هدرهم حقوقهم المواطنية»، «أين عصر النائب المحرقي الذي يدافع عن المواطنين في سترة ورأس الرمان والعكس أيضا؟»، وغيره من صداع أسئلة خليجية مفجوعة لا تنتهي!
لماذا يزداد الوعي والحراك المجتمعي السياسي ترديا نحو مجاهل التطييف والتطييف المضاد والمتبادل على رغم كون الفرصة سانحة للنضال لصناعة الازدهار والرخاء المستقبلي مع انفراج هامشي في الانفتاح السياسي؟
الطائفية هنا أصبحت سيدة المشهد المجتمعي السياسي، وفي الوقت ذاته أكبر عائق يحول دون بناء دولة القانون والمؤسسات والمجتمع المدني بدلا من أن تكون مجرد أعراض جانبية لخطأ في تقدير مفاعيل بعض المضادات التي تسببت بحمى حادة مؤقتا، كما الحاصل في الدول المجاورة التي يعتاش وينعم مواطنوها بفضل الريع المرتفع الذي يكون في حد ذاته أحد صمامات الوحدة الوطنية والعقود الاجتماعية الطويلة تاريخيا بين المجتمع والدولة، بعكس البحرين المصنفة ريعيا على رغم اضمحلال هذا الريع على مستوى الرفاهية المواطنية، فلا الإصلاح المؤسساتي المتقدم ولا العطية الريعية التراجعية قد تنفع حلولا وخياراتٍ تتبناها الدولة صماما من صمامات الوحدة الوطنية المرغوبة و «شوافط» لأوحال النُعرات والتمايزات الطائفية الملتهبة!
ما يضحك ويبكي في آن واحد هو أن يكون الإنترنت والتطور في تقنيات الاتصال، الذي جعل من العالم قرية كونية واحدة، هو ذات السكين الحادة التي تزيد من الإفرازات القيحية الطائفية الخطيرة في المنتديات البحرينية المتضادة على رغم ما تحمله من عناوين وطنية مشرقة، وتستمر حلقات الإبكاء والإضحاك الهستيري تلك مع تهافت «أحاديث» ومرويات تاريخية، و «مصطلحات» طائفية في تلك المنتديات بتوقيع «رونالدينو قاهرهم» أو «شاكيرا» أو «هيفاء وهبي» أو «دافيدوف» أو «دانهيل» وغيرها من شعارات استهلاكية تنكرية رائجة؛ وهو ما يعزز من فرضية كون السلوك الطائفي هو فعل تعصب اجتماعي وتحزب مجتمعي أكثر من كونه بالضرورة تميمة للزهد الورعي ومجسما للتقوى والالتزام الديني، أو تجسيدا للطبائع النزوية التطهرية، فليس الشخص الطائفي - بالضرورة - شخصا متعصبا دينيا، ولا مانع من أن يكون بعدها خاضعا إلى السمات والعلامات والماركات الاستهلاكية ذاتها التي يصاب بحماها المجتمع!
إن البعض قد يُرجع سبب التشابه البحريني العراقي الحاضر في اتجاهات الحراك السياسي المجتمعي في تطابق المعطيات الإثنية والطائفية المتنوعة والمتشابهة نسبيا، والخصوصية التاريخية بين البحرين والعراق التي تشفع للتماثل والتشابه سياسيا واجتماعيا بينهما، حيث مسلسلات التشطير العمودي والتقسيمات المناطقية المضاربة جاهليا تجري جميعا على قدم وساق، وإن كان ذلك في العراق بفعل استراتيجي امبريالي تتساند معه جهود مصلحية بحتة لأمراء الأحزاب والجماعات السياسية والطوائف والدويلات الشرق الأوسطية الجديدة، وقد أتى بعد طول أنين تحت حكم مركزي تسلطي صارم!
فبناء على هذه الأطروحة وما شابهها يكون الوضع بحرينيا وعراقيا هما وضعان بحتمية تطبيعية موحدة لا خلاص ولا فكاك من تبعاتها الحاضرة والمستقبلية، فما يجري في العراق هو ذاته في البحرين مع بضعة فوارق موضوعية، فمثلما أن الوضع العراقي هو جنة تقدمية ترنو إليها أبصار تقاة ودراويش وزهاد السياسة لدينا، وقد صرح بها بغلطة فادحة مازلنا ندفع ثمنها، وكما أن استجواب كتلة «الوفاق» البرلمانية الوزيرَ أحمد بن عطية الله آل خليفة لا يختلف عند بعض الكتبة عن استجواب كتلة «الائتلاف العراقي الموحد» الدليمي، وربما عدّ البعض تفكها مطاعم الكباب العراقي التي انتشرت هي الأخرى في البحرين بعد طول انقطاع وابتعاد سببا اجتماعيا واستراتيجيا وسياسيا لتدعيم ذلك الاعتقاد والنظر، فجميع تلك المعطيات لديه ترجح مدى التقارب البحريني العراقي المتهافت في الأوضاع المتردية مجتمعيا وسياسيا!
وعلى الوزن نفسه الذي يتم فيه استحداث أحزاب وتيارات سياسية طائفية محليا بعضها ظهر حديثا مناكفة للتيار السابق لا أكثر ولا أقل من دون رؤية أو مشروع وبرنامج معلن، والسعي إلى تكوين كيانات وهيئات ومؤسسات شرعية طائفية على تناظر مع ما هو حاصل في العراق حاليا، فإن «الغورنيكا» و «الغويات» العراقية ذاتها تستخدم ورقةَ ابتزاز سوداء تُشهَر في وجه أية دعاوى إلى الاجتماع والمصالحة الوطنية، وأية مطالبات شعبية إصلاحية!
ولكن قد يتجاهل هذا البعض عواملَ وأسبابَ التهميش السياسية والاقتصادية المستمرة تاريخيا بمضاعفاتها المتعددة والمهددة للسلامة المجتمعية التي أدت إلى تنامي الإحساس بالحرمان، وتكريس طبائع ورمزيات الاستعباد والاستبعاد التي ذكرناها سابقا، كما أدت إلى تعظيم الهوة بين أجزاء كبيرة جدا من المجتمع والدولة، واستفادت تلك الهوة من الخضوع إلى فرص وقوانين الصيرورة الرأسمالية العالمية المتوحشة في التباعد والتنائي بين أقلية فاحشة الثراء وغالبية معدمة!
أقل المطلوب قبل إقرار قانون لتجريم التمييز هو أن تتطابق الأقوال مع الأفعال في مجال نبذ الطائفية والتحذير من استفحال خطرها وغلوائها بصفتها خطرا أوليا على الأمن القومي البحريني، بدلا من أن تتم معاودة تكريم الكتّاب والكاتبات الطائفيات من أصحاب السوابق المقيتة في إثارة الإشاعات، بل ووصف إنتاجهم بـ «التنوير» و «التوعية»! أو أن تحذر من تقسيم «البلاد» و «الوطن العربي» بفضل الاستراتيجيات الامبريالية وفي الوقت ذاته يكون الوصال بينك وبين الامبرياليين أكثر مما بين قيس وليلى وعنتر وعبلة، وتشترك في تدعيم وإعداد حملات انتخابية طائفية مضادة للأخرى، وإلا فيكون بالتالي هنالك شيزوفرينيا يعانيها بناء الدولة!
مثل تلك الخطوات التشريعية والتنفيذية البسيطة لا يمكن إغفال أثرها الأولي في أن تكون على الأقل إعلانا مدعما ومثبتا لصمامات الوحدة الوطنية التي لا تكفي التصريحات والخطابات العصماء في تسميرها وفي تثبيتها، فليس المطلوب - بالضرورة - وجود ربط وصال من التصوف والعشق الاسمي بين أبناء الطوائف، أو أن ينصرف كل فرد إلى تأليف قصيدة غزل مقفاة أو نثرا ويهديها لأخيه المواطن من الجماعة والطائفة الأخرى، فصمامات الوحدة الوطنية تعني على الأقل وجود خطوط حماية ووسائل صيانة براغماتية ترى في المصالح العامة والخطوط الكثيرة المشتركة بين المواطنين في الوطن بمثابة خطوطٍ حمراءَ لا ينبغي تجاوزها وانتهاكها، كما أنها تكفل صد وردْع تيارات التطييف الموجودة بصفة المناكفة والمناكدة وإثارة الصدامات!
لم تكن وتُكوِن صمامات الوحدة الوطنية فصولا رومانسية «من دون كيشوتية» كحال التيارات الطائفية التي تشترك بين بعضها بعضا في محاربة الطواحين الهوائية والمردة، ولو على ظهر حصان أو حمار أو «لكزس» من دون وجود تصوّر للنهاية والمدى الأخير، وذلك على العكس من الخيار الوقائي المتمثل في صمامات الوحدة الوطنية المطلوب تصميمها وتدعيمها بالخلق والتطعيم الإصلاحي، لا تصنيمها بإيجادها من العدم الاجتماعي والسياسي!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1728 - الأربعاء 30 مايو 2007م الموافق 13 جمادى الأولى 1428هـ