بالعودة إلى الوراء، لم يكونا متوقعين ماذا سيشاهدان، لم يكونا غير مجموعة من الشباب الأميركي، الذي لم يكن يحمل غير رغبة تعلمه الطيران، قصة من الواقع أو قصة حقيقية، مقولة مراوغة لتشويق المتلقي، في حين لم يصور الفيلم الوقائع بمستوى يمكنه الاتكاء على المقولة السابقة، فهو قام بتبديل الأبطال، بل ولم يعطِ الصورة التاريخية أو اللحظة الزمنية التي أنتجت حوادثه طابعها الحقيقي، بغير الزي والبدل والطائرات، غير أن ذلك لم يقدح في قدرة الفيلم على خلق جو من التشويق، استطاع من خلاله فرض قيمة فنية، بعيدا على ماوراء الرسالة التي يحاول تقديمها. يذكر أن كلفة إنتاج الفيلم تبلغ ستين مليون دولار.
الأحراش تظهر للمشاهد من المشهد الأول، وعلى ارتفاع يشير إلى أنه من طائرة، بهذه المشاهد يبدأ فيلم الطيارون، خلال الحرب العالمية الأولى كانت مجريات قصة الفيلم تتلاحق، وسيكون أبطالها شباب عاديين كما يصفهم المخرج، تطوعوا خلال الحرب رغبة في المغامرة، وخلال ذلك أصبحوا أبطالا، ففي العام 1917 وقبل تورط أميركا في الحرب ضد ألمانيا، بجانب حلفائها البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين، قام بعض الشبان الأمريكان بالتطوع للقتال مع الجيش الفرنسي، بعضهم انضم إلى المشاة، والبعض الآخر ساعد في معالجة الجرحى، لكن قسما آخر منهم كانت لديهم فكرة مختلفة، وهي أن يتعلموا الطيران.
العنصرية والمجتمع وراء تطوعهم
يظهر الشبّان وهم في بلداتهم، كفكرة وخلفية عن شخصية كل شخصية، يتم التركيز على شاب أميركي، في الجزء الريفي من أميركا ثم على الباقين، على الملاكم الذي فر من وجه العنصرية في أميركا إلى فرنسا، ليقاتل بعد ذلك من أجل فرنسا، لكن مع الأميركيين، كانت دوافع كل من المتطوعين مختلفة، فالبطل «جمس فرانكو» البالغ من العمر تسعا وعشرين عاما، راعي بقر من تكساس، كان هاربا من الديون التي تلاحقه بسبب مزرعة عائلته، أما تيلر لبن، وهو طفل لعائلة ثرية، تدفعه عجرفة سلوك والده معه إلى الانخراط في صفوف المتطوعين، ويوجين سكنر الملاكم والمتحدر من أصل افريقي، يدفعه رد معروف لبلاده الثانية «فرنسا» التي لم تخضعه لتمييز العرقي للتطوع، يترك هذا الفيلم مساحة لإعادة النظر في أسبقية أخرى من جانب آخر، فيعتقد أن أول إنجاز للأمريكيين من أصول أفريقية كان خلال الحرب العالمية الثانية، لكن هذا الفيلم يشير بقوة إلى أسبقية أخرى، يقوم بدورها الممثل يوجين سكنر، إذ كان يعتقد أن الفصل العنصري لاحقت المتطوعين السود إلى بداية الخمسينات، إلا أن الطيارين الذي ناضلوا لنيل حقوقهم من المؤسسة العسكرية التي عملت على تكريس الفصل العنصري، تدربوا منذ 1943 حتى العام 1946 على المقاتلات وقاذفات القنابل، وهم قرابة الألف طيار أسود، بمطار تسكيجي، فكانت إنجازات الطيارين السود، كما يرجع المؤرخون أساسا لدفع عملية حقوق السود في الجيش الأميركي، لكن فيلما أنتجته هوليوود بعنوان «طيارو تسكيجي» أعاد النظر بشأن هؤلاء الطيارين، ويقول أحد الباقين منهم على قيد الحياة، أن هؤلاء الطيارين حاربوا حربين، واحدة خارج الوطن دفاعا عنه، والثانية ضد العنصرية في داخل الوطن، ولعل هذا الفيلم يعيد الاعتيار لفترة أسبق، ولأشخاص مجهولين دافعوا عن أوطانهم.
بداية قوية أغفلت وجود المتلقي
كل المتطوعون في الفيلم كانوا تحت قيادة النقيب الفرنسي والممثل الرائع جين رينو، الذي يظهر بصورة نقيب يتعامل بإنسانية مفرطة، وبقدر كبير من الرقة لا يتناسب مع دوره في الفيلم، وبقيادة القائد الأميركي مارتن هندرسن، الذي يبدو عجرفة كبيرة في لقائه الأول مع المتطوعين، بل وينصحهم بالعودة إلى بيوتهم، مشيرا إلى أن العمر الافتراضي للطيار خلال الحرب لا يتجاوز الستة أسابيع على الأغلب.
غير أن هذه المعلومة لم تأثر في ملامح المتطوعين بصورة عميقة، ليبقى الحوار الذي كان عبارة عن مشادة كلامية بين قائد المجموعة، والمتطوع الجديد «فرانكو» حاضرة كبداية سيئة، وهي علامة تميز البطل في المشاهد التقليدية، فرانكو الذي تعلم الطيران في الواقع خصيصا لهذا الفيلم، كان مختلفا عن بقية المتطوعين، فحين وصل المتطوعون إلى المخيم في شاحنة عسكرية فرنسية، كان فرانكو الوحيد الغير حاضر باللباس العسكري، والوحيد المتأخر عن الاصطفاف معهم، كما كان الوحيد في محاورة قائد المجموعة.
مع تطور الحدث يشعر المتطوعون بالرغبة لمعرفة الكثير عما ينتظرهم، ويحاولون الاختلاط بالطيارين السابقين لهم، بينما نقطة التقاء الطيارين هي موقع الحانة، غير أن الطيارين السابقين لم يسمحوا لجدد بالانضمام إليهم، فالقواعد المعمول بها داخل المعسكر تقضي أن يحصل المقاتلون على قتلاهم من الألمان أولا ليحق لهم الدخول، فيتأزم الحدث بمشادة كلامية، تظهر فيها براعة الملاكم لإنهاء فصل المحادثة، لكن يبرز فيها فرانكو بحسهم المحادثة الكلامية من جانب آخر، من هنا تبدأ بوادر قيادة فرانكو للمجموعة داخلهم، ويبدأ كذلك تعاطف المتلقي مع هذه الشخصية التي يشعر بتميزها.
قصة حب محشورة في المتن التاريخي
بعد التدريب المضي والمتواصل خلال أسابيع، يتمكن المتطوعون من قيادة الطائرات، يتميز بينهم فرانكو، فيطلب منه القائد تدريب أحد المتطوعين على رمي الأهداف بالطائرة، ليعلق فرانكو مع هذا المتطوع في الطائرة، وتسقط الطائرة في أحد مناطق فرنسة الريفية، يستيقظ على الكثير من الأعين الخضراء والوجوه الناعمة، فرانكو وجد نفسه في دار بغاء، محاطا بأيدي النساء، إلا أن واحدة منهن تقوم بعلاج ساقه المصابة أثر سقوط الطائرة، من النظرة الأولى يغرم فرانكو بهذه السيدة، إلا أنه يعتقد أنها بغية، فيحاول سؤالها عن ذلك، لكن تبرز مشكلة اللغة، التي تكون حاجزا للحوار، لكنها ليست حاجزا أمام مشاعر فرانكو.
قصة حب بين أميركي، وفتاة تملك سحر الفرنسيات، يجمعهما العدو والواحد، وهي تكريم لكيفية رؤية الأميركيين لأنفسهم، فهذا الشاب يدافع عن فرنسا الجميلة، فينال مجد الفرسان، ويتمتع بأجمل حسناوات هذه المدينة، وطبعا يقوم هذا البطل بهزيمة العدو، في ملحمة بطولية، وفعلا ذلك ما حدث، تقع الفتاة في حب هذا الشاب الطيّار، ويقع هو أيضا في غرامها، فيحاول الاقتراب منها خلال الحرب، يدفع ذلك بالفتاة إلى تعلم الإنجليزية، ولكن بسرعة لا تتناسب مع منطق طبيعة الأمور، بلحاظ عدم وجود أشخاص غيره لممارسة التحدث باللغة، وفي جانب آخر يتقدم الجيش الألماني على القرية التي تسكن فيها الفتاة، وتقوم باحتلالها، وعلى شاكلة مغامرات راعي البقر الأميركي، يحاول هذا الشاب إنقاذها، فيدخل في خلاف مع النقيب، حين يرفض النقيب ذهابه لإنقاذ الفتاة، لكنه بعد رجوعه يغفر له ذلك، ويتعاطف معه، وبذلك تقحم شخصية المتعاطف على النقيب، ويظهر بصورة رجل رقيق لا يتناسب من ملامح الشخصية المفترضة.
المعارك الجوية وتصاعد الحدث
طائرات الحرب العالمية الأولى، المصنوعة من مادة الخشب سريعة العطب، صنع قسم منها خصيصا لهذا الفيلم، وفرانكو الذي تعلم الطيران خصيصا لهذا الفيلم، لم يشعر كل ذلك المتلقي، خصوصا مشاهد الطيران بصدقية المشهد، حتى أن المتلقي لا يحس بالخطر الذي يحيق بالطيارين، فسقوط الطائرات، وموت الأصدقاء المتطوعين يمر دون أن يدخل المتلقي للنص والمشاهد أي تأثير يوازي المعنى المقترح.
في المقابل يبدو واضحا تدخل الرمز الأميركي وراء المشاهد، حين يوضع رمز النسر الأميركي على الطائرة التي يقودها البطل بعد موت قائد المجموعة، هذا القائد الذي كانت تعويذته تربيته أسد في الثكنة العسكرية، فالأوربيون يعتبرون الأسد تعويذة في حين لا يوجد له تفسير غير القوة لدى المتلقي العربي، هنا تأتي القراءة المختلفة للنص، فلكل ثقافة قراءة مغايرة ومختلفة، وبموت القائد في أحداث منطاد زبلن الألماني، وهي قمة الحدث في الفيلم، إذ يقود المتطوعون هجوم لوقف تقدم القوات الجوية الألمانية، في تقدمها لقصف العاصمة الفرنسة باريس، فيقوم قائد المجموعة بعد تعرضه لإصابات بثقب المنطاد بجسد الطائرة وبجسده العاري، وهنا نقطة التحول التي يكون فيها البطل في أكمل تجلياته، حين يتسلم قيادة المجموعة، ثم يقوم بالثأر من قاتلي أصدقاءه.
فيلم أميركي بامتياز في زمن الحرب
لا يمكن فهم أي عمل دون الإلمام ببيئة تكونه، والثقافة التي يصدر عنها، وأي قراءة سريعة للسياسات الأميركية في العالم، سواء من حرب أفغانستان إلى العراق، واحتمال اندلاع حرب ضد إيران، وقبل ذلك حرب فيتنام، مع الحرب العالمية الأولى والثانية، يدرك أن تكوّن أميركا الحديثة ارتبط بشكل واع أو غير واع بالكثير من الحروب، وفي جانب آخر ارتباط ثقافة راعي البقر الأميركي بقتل الهنود الحمر، وتسيده على الأرض والمقدرات، كل ذلك كرس لمفهوم الجندي الأميركي المنتصر والخارق، وهي نفس الثقافة التي يصدر عنها الفيلم، فهو يتحدث عن شاب أميركي، يتطوع للدفاع عن أرض غير أرضه، ثم يقع في حب إحدى فتيات هذه المدينة، والتي ينتهي الفيلم دون أن يلتقيها، وحضور الرمز الأميركي في النسر الموشوم على جسد الطائرة، ثم انتصار الشباب المتطوعين على أقوى الجيوش المسلحة في فترة الحرب العالمية الأولى، كل هذه العناصر تصب في نفس الفهم الذي تقوم عليه أكثر الأفلام الأميركية، وبذلك فإن الفيلم لم يقدم من هذه الناحية الثقافية أي قراءة مغايرة، قد تسهم في فهم حضاري وتشارك حضاري جيد.
العدد 1728 - الأربعاء 30 مايو 2007م الموافق 13 جمادى الأولى 1428هـ