مع هذا التضارب الذي يعيد النظر في «الفردية»، أو في أجزاء منها، ويحاول تقليص صلاحياتها، أصبحت «الفردية» في مواجهة أشرس أعدائها، لكن هذه المرة هي في مقابل التكنولوجيا، فقبل فترة نشرت الـ»بي بي سي» تقريرا تحت عنوان «التقنية الرفيعة تهدد الخصوصية الفردية»، بأن المعلومات التي يتم إيداعها في الشبكة العنكبوتية، كافية في كثير من الأحيان إلى التعريف بالهوية، وكسر جزء كبير من خصوصية الأفراد، أي غياب الخصوصية الفردية في خصوصية عامة، وهو نفسه ما يحصل الآن من تداخل الثقافات، وانصهارها شيئا فشيئا في بعض.
وأوضح مثال على ذلك اللهجات في البحرين، كانت لكل قرية لهجة معينة في البحرين، مع تطور العلوم والاتصالات، ضعفت هذه اللهجات وأخذت في الانحسار، وإن كان من عناصر هذا الانحسار السلطة، إلا أنها بالضرورة احتاجت أجهزة الاتصال لفرض هذه السلطة، ومع تطور أجهزة الاتصال أصبحت السلطات أوسع من الحدود الجغرافية، وذلك بالضبط ما يحصل في العالم، أي انحسار كثير من اللغات، وكذلك انحسار كثير من الحدود الجغرافية، ولكن بعد تفتت الجغرافيات الكبيرة إلى صغرى، لتندمج في جغرافية تكون بشكل ما واحدة، ويمكن فهم ذلك بوضع قطع مختلفة من مواد قابلة للتحلل بالماء، فيقوم الماء وهو أداة الاتصال بتفتيت الحدود الجغرافية لهذه المواد، ثم انصهارها في سائل واحد، نطلق عليه المجموع.
بهذه الاستنتاجات تسقط أجزاء من «الفردية»، أو في أحسن الأحوال تتحول إلى إجراء شكلي في حكومة عالمية، تفرض لغة واحدة، ودائرة «مخابرات» واحدة، يتحول فيها الناس ودولهم إلى قرى صغيرة من هذه الحكومة التي ترأس العالم، وفي سبيل تطويع ذلك، وحفظ الأمن فيها، ستصبح التكنولوجيا المصدر الوحيد لفرض هذه السلطة، وتقديم اتصال فيما بينها.
لكن الفرد لا يكسب قيمته من خلال ما يعتقده، أو لانتمائه إلى عرق أو جنس ما، لأن القيمة الحقيقية تكمن في كونه بشرا، وبذلك فإن الناتج من قوانين تتم عبر الاتفاق بين القوى المتصارعة في المجتمع ما هو إلا صياغة تناسب الحقوق وما يتماشى مع القوى المحيطة، وهذا ما ولد فرديات مختلفة ومتعددة.
لكن من فهم الفردية في الغرب، النابعة من أسئلة المجتمع، كانت المعالجات مقاربة لما يطمح له الإنسان هناك، وقد يكون استشراف ما تصل إليه الفردية في المستقبل القريب أو البعيد، مجرد فرضية يتم فيها الترجيح، لكن إذا ما حاولنا تطبيق الفردية في مجتمعاتنا سنصطدم بمشكلات عدة، منها التعاليم الأيدلوجية، وذلك ربما ما أثار كثير من قضايا في مجتمعاتنا، فيقول سبينوزا ان الأيدلوجيات وظيفتها «إقامة المبادئ الأخلاقية للسلوك» فقط، وهو بخلاف المعتقد الأيدلوجي الذي يفرض أن قيمة الإنسان لا تتأتي إلا من «التقوى»، وليس له حقوق إلا ما يفرضه المشرّع له، والأخطر أن أية محاورة لهذه «المسلمات» يعد خروجا يستتبع الردع و»التعزير»، فكيف يمكن فهم أو تطبيق الفردية في المجتمعات العربية؟ أعتقد أن هذا السؤال هو أكثر سخونة في وقتنا الراهن.
العدد 1728 - الأربعاء 30 مايو 2007م الموافق 13 جمادى الأولى 1428هـ