التطرف هو مزرعة الإرهاب، فيها ينبت ويزدهر...
والتطرف والإرهاب، ينبتان ويزدهران، لعوامل ثلاثة، أولا، الانحراف الفكري في فهم الدين وتأويله، وثانيا، الفقر والإحباط والقهر الاجتماعي، وثالثا، الاستبداد والكبت السياسي، المصحوب بتدخل خارجي مساند وضاغط...
وها هو الإرهاب وليد التطرف، ينشر في المنطقة من شرقها إلى غربها، يهدد أمن الشعوب مثلما يقوض الدول ونظم الحكم... ويصعب أن تجد دولة واحدة من دولنا، تخلو من العوامل الثلاثة المشجعة للتطرف والإرهاب، أو على الأقل من عاملين... وانظر حولك وتفحص الموقف بروية.
حيث الشبكات المتطرفة والمنظمات الإرهابية، تتمدد وتتشعب وتنتشر، من العراق إلى المغرب، ومن لبنان إلى الجزائر، ومن هذه وتلك إلى اليمن والصومال جنوبا، بينما الدول الوسطى، وخصوصا مصر والسعودية تغلي على وقع تهديد الشبكات النشيطة، أو تلك الخلايا النائمة، تنتظر فرصة الانطلاق نحو التدمير والقتل.
وقبل أن ندخل في التفاصيل، نقول إن هذا التمدد والانتشار المتطرف والإرهابي، قد أدى، فوق ما أدى من قتل وتدمير، إلى نتائج بالغة الخطورة.
- أدى إلى تشويه سمعة المقاومة الوطنية في المنطقة، إذ تمكنت بعض هذه المنظمات من التغلغل والتوغل في مناطق حروب التحرر والاستقلال، مثل العراق وفلسطين ولبنان والصومال، بعدما دخلت في منافسة مع حركات المقاومة الوطنية الشريفة التي تقاتل الاحتلال الأجنبي، وارتكبت عمليات قتل عشوائي، فلوثت وجه المقاومة الناصع.
- وأدى إلى توفير كل المبررات أمام نظم الحكم المحلية، لتشديد القبضة الأمنية وممارسة المزيد من القهر والكبت، ومصادرة الحريات العامة، أو ما تبقى منها، سواء بقوانين الطوارئ، أو حتى خارج القانون، باسم محاربة الإرهاب وتأمين حق الشعوب في الأمن والاستقرار.
والنتيجة ان الاستبداد السياسي - متحالفا مع القهر الاجتماعي الاقتصادي - قد ازداد حدة وشراسة على اتساع الخريطة العربية، بينما الاحتلال الأجنبي يسري كالهواء، ويطبق الوصفة الأميركية المعروفة بالفوضى البناءة!
- وأدى إلى تقديم خدمة مميزة للاحتلالين الأميركي والصهيوني، الهاجمين بقوة شرسة علينا، بشرا وثروة وأرضا وماء وسماء.
لقد تبادل الطرفان الفوائد العاجلة، منظمات التطرف والإرهاب تنتشر وتتوسع، وتلقى تعاطفا في بعض الأحيان، لأنها تدعي أنها تحارب بكل الأسلحة المتاحة، ضد الغزو «الصليبي الصهيوني» الذي يفرض هيمنته على شعوبنا العربية الإسلامية، بينما الاحتلال الأجنبي، يخوض المعارك والمواجهات المسلحة على اتساع خريطتنا، بحجة محاربة هذا الإرهاب «الإسلامي»، خصوصا في ظل الفوبيا الأميركية المتطرفة، التي تحكم إدارة الرئيس الأميركي بوش وعصابة المحافظين الجدد مع عصابات المتطرفين الصهيونيين، أصحاب نظرية الفوضى البناءة، بل المدمرة!
هكذا قدم كل طرف للآخر، مبرر الوجود والحرب والضرب، وسقاه ماء المحاياه، على حساب عطشنا وجوعنا وأمننا وحرياتنا الضائعة!
على مدى الشهور الخمسة الأولى من العام 2007، روعتنا تلك المعارك المتشابكة الأسلحة المختلطة الأهداف والمتداخلة الأطراف... إن كانت الساحة العراقية أوسعها وأخطرها، فالساحة المغربية والجزائرية، ليست أقلها، والساحة الفلسطينية واللبنانية والسودانية والصومالية واليمنية والسعودية، ليست أبعدها.
مزيج مخيف من الغزو الأجنبي والمقاومة الوطنية والهجمات الإرهابية والتمرد السياسي والغضب الشعبي الاجتماعي... ضاعت المعالم وذابت الحدود، بين الصواب والخطأ، مثلما تاهت معالم الشرعية، كل يلتحف بها ليدعي انه على حق ويتهم الآخرين بالمروق والتطرف والإرهاب!
ربما يكون ما يجري في لبنان هذه الأيام، نموذجا لما نتحدث عنه من الخلط والتزوير والتزييف، على رغم سخونة ما يحدث في الساحات الأخرى السابق ذكرها، وخصوصا العراق وفلسطين.
والحقيقة أن ما يجري في لبنان، بكل تطوراته المرعبة وسيناريوهات الخطر المتوقعة، لم يكن مفاجئا لأي باحث أو محلل يرتب المقدمات ليتوقع النتائج، فلبنان الصغير المساحة الكبير القيمة، يعيش على مدى عامين حالا من التوتر السياسي الشعبي الأمني المتصاعد.
توتر تساهم فيه أطراف محلية منقسمة ما بين ما يسمى فريق الأكثرية بخليط مسلم مسيحي، وما يسمى فريق المعارضة بخليط مماثل، وكل منهما يدعي الشرعية، وهو بممارسته يفتقد الشرعية، وقد كان طبيعيا أن تتدخل أطراف خارجية، إقليمية ودولية، تجد لنفسها نصيرا محليا! وفي كل الأحوال كان هناك عاملان آخران، دخلا على الخط، «إسرائيل» أولا، الرابضة على الحدود الجنوبية، متربصة للانتقام من فشلها المدوي خلال حرب الصيف الماضي ضد المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، بينما على الطرف الثاني، وفي قلب لبنان شمالا وجنوبا سهلا وجبلا، ترقد قنبلة موقوتة هائلة، تتمثل في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي تضم نحو 450 ألف لاجئ مشرد، يشكلون 10 في المئة على الأقل من سكان لبنان.
وبقدر ما وجدت القوى الأجنبية المتدخلة، خصوصا أميركا، في العامل الإسرائيلي العدواني المتحفز للثأر، خير نصير في ارباك كل المعادلات، بقدر ما وجدت قوى أخرى محلية وإقليمية، في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، تربة خصبة، ليس لمقاومة المحتل، ولكن لبناء خلايا متطرفة تزيد المعادلات إرباكا، سواء بحجة إعادة تسليح المخيمات الفلسطينية دفاعا عن النفس في وجه الاحتمالات داخل الساحة اللبنانية، أو بحجة الإعداد لتقرير معركة الحسم داخل التركيبة اللبنانية ذاتها!
في هذا المناخ الغائم المتوتر الملتبس، تدخل المعارك التي اشتعلت أخيرا بين الجيش اللبناني النظامي، وبين جماعة «فتح الإسلام»، وهي جماعة بدأت فلسطينية انشقت عن تنظيم «فتح الانتفاضة»، الذي سبق أن انشق هو الآخر عن حركة فتح الأم. لكن جماعة فتح الإسلام التي تنقلت كثيرا عبر الحدود السورية اللبنانية، وخلال كثير من المخيمات الفلسطينية، واستقرت أخيرا في مخيم نهر البارد قرب طرابلس عاصمة الشمال اللبناني، أصبحت معروفة بأنها فرع من فروع تنظيم القاعدة الذي يقوده أسامة بن لادن وأيمن الظواهري.
وها هو قائدها شاكر العبسي الفلسطيني الأصل تلميذ أبومصعب الزرقاوي، يعترف في حديث شهير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، يوم 16 مارس/ آذار العام 2007، «انه وتنظيمه فرع من «القاعدة» الأم، وان أسامة بن لادن حين يصدر الفتوى، نقوم نحن بتنفيذها وتطبيقها»!
والمعنى أن التربة اللبنانية المتوترة بصراعات سياسية وظائفية ومذهبية، بين المسلمين والمسيحيين، بين السنة والشيعة، بين الموارنة والموارنة، بين الصراع على السلطة والثروة، بين الاستقواء بالقوى الإقليمية والدولية، بين التهديد الإسرائيلي الدائم والتدخل العربي الغائب، قد استقطبت فروعا لـ «القاعدة»، من أفغانستان إلى العراق إلى لبنان، تاركة وراءها تنظيمات متطرفة أخرى تحمل أسماء من نوع أنصار الله وجند الشام، وما خفي كان أعظم!
وعلى رغم أن معظم الأطراف المتداخلة، تعترف اليوم أن تنظيم فتح الإسلام الذي فجر المعارك في المخيم الفلسطيني (نهر البارد)، هو وغيره فرع لـ «القاعدة» في قلب لبنان، ازدهر في ظل الأوضاع الملتهبة والصراعات المتوترة، فإن الاتهامات أصبحت تطول تحديدا أطرفا محلية ودولية، باعتبارها المسئولة عن استقواء هذا التنظيم الاصولى المتشدد.
لقد سارعت قوى الأكثرية بقيادة تيار المستقبل «سعد الحريري»، مع حلفائه جعجع على الناحية المارونية، وجنبلاط على الناحية الدرزية، باتهام سورية بتمويل وتسليح تنظيم فتح الإسلام، في حين ردت قوى أخرى من المعارضة، باتهام تيار المستقبل وتحديدا سعد الحريري، بتمويل وتسليح هذا التنظيم «السني» ليقف في مواجهة حزب الله «الشيعي» الخصم الرئيسي لتيار المستقبل... وهذه ألغاز جديدة في الحلبة اللبنانية لكنها ليست غريبة، إلى أن تثبت صحتها أو خطؤها!
وفي كل الأحول، فإن تنظيمات التطرف والإرهاب، قد وجدت لنفسها موضع قدم داخل لبنان، بغض النظر عن المشجع والممول، وها هي تقوم، بل تقاتل وتقتل، على أمواج العوامل الثلاثة المسببة للإرهاب التي سبق لنا ذكرها... ومن عجب ان تصبح ارض لبنان المتحررة المستنيرة المزدهرة، أرضا خصبة لهذا الإرهاب والتطرف، حيث توطن الانحراف الفكري والصراع المذهبي الطائفي، والفقر والإحباط، خصوصا في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، من مخيم نهر البارد والبداوى شمالا إلى مخيم عين الحلوة جنوبا، ناهيك عن الصراع السياسي الملتهب بين أطراف محلية تستجلب قوتها من مدد خارجي وسند أجنبي أو إقليمي. وإذا كان الاستعمار الأجنبي، قد استقطب تنظيمات التطرف، وخصوصا «القاعدة»، للقتال ضده في العراق، فإن العوامل الأخرى قد اجتذبت التنظيمات ذاتها للقتال في لبنان، امتدادا حتى المغرب العربي والجنوب الصومالي والسوداني.
والنتيجة في كل الظروف واحدة... تطرف في مواجهة إرهاب، أو إرهاب في مواجهة تطرف، من الداخل والخارج... معارك لا تنتهي!
وعلينا أن نفتش داخل أنفسنا أولا وأخيرا لكي ندرك هول المأساة...
خير الكلام: يقول عبدالرحمن الشرقاوي في مسرحية «ثأر الله»:
مفتاح الجنة في كلمة...
ودخول النار في كلمة...
وقضاء الله هو الكلمة...
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1727 - الثلثاء 29 مايو 2007م الموافق 12 جمادى الأولى 1428هـ