بعد أكثر من أسبوع على اندلاع حوادث مخيم «نهر البارد» في الشمال بدأت الانقسامات اللبنانية تظهر في المخيم مقابل ظهور انقسامات فلسطينية في الجانب اللبناني. هذا هو لبنان. بلد الانقسامات والعصبيات والتجاذبات الأهلية التي ترسم حدود التعامل السياسي بين الطوائف والمناطق والمذاهب. ونتيجة هذا التركيب الكيماوي الاجتماعي تعطل الاتفاق على حل للمشكلة وبات البلد الآن أمام أزمة إضافية تزيد من تعقيدات القلق الأمني وما يترتب عليه من تشنجات داخلية تمتد قنواتها دوليا وإقليميا.
الوقوف على أطراف المخيم الفلسطيني في الشمال وضع البلد كله أمام مأزق وطرح السؤال: ماذا بعد؟ هل يتقدم الجيش ويدخل أم يجنح نحو التفاوض؟ التقدم العسكري مشكلة لأنه قد يفتح الباب أمام ردود فعل غير متوقعة. وعدم التقدم مشكلة لأنه سيدفع بالقوى السياسية على أنواعها للتدخل. وبين دخول المخيم بالقوة والاكتفاء بهذا القدر من الرد سيطرح بدوره مشكلة التفاوض مع «شلة القتلة». من يتفاوض معهم وعلى أي أساس وكيف ستنتهي مشكلة يمكن أن يكون لها تفرعات أهلية وإقليمية؟
التعقيد الميداني الذي وصلت إليه مشكلة تطويق المخيم وتفريغه من سكانه المدنيين يعكس في النهاية تلك التعقيدات السياسية التي انكشفت صورها في الأسبوع الماضي محليا وإقليميا ودوليا.
محليا توزعت الاتهامات السياسية على ثلاثة محاور: فريق اتهم أجهزة الاستخبارات السورية بأنها هي من درب وسلح وأرسل المجموعة لإثارة مشكلات أمنية تعطل على الدولة دورها وتشغل الحكومة بأزمة مفتعلة لمنع قيام «محكمة ذات طابع دولي» وتخريب البلد قبل اقتراب استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
فريق ثان اتهم الحكومة بالعجز والتقصير وعدم القيام بواجباتها الأمنية في حماية المخيمات أو المدنيين اللبنانيين وبالتالي على أجهزة الدولة تشكيل لجنة تحقيق لتقصي الحقائق لمعرفة الوسائل التي اعتمدت في تجهيز هذه المجموعة وتمويلها لأهداف معينة ولكنها انقلبت عليها واتجهت نحو غايات مجهولة وغير معروفة.
فريق ثالث اتهم الولايات المتحدة بمحاولة إثارة الفوضى في لبنان وجرجرة الدولة إلى حرب استنزاف تسبب لاحقا في إضعاف المؤسسة العسكرية ودفع البلد نحو بعثرة أهلية تزعزع الاستقرار وتخلخل الأسس التقليدية التي نهضت عليها صيغة الكيان السياسي.
هذه المحاور الثلاثة التي وزعت الاتهامات على جهات ثلاث توافقت على تحميل مسئولية ما حدث لشبكات تنظيم «القاعدة». ولكن هذا التوافق توزع بدوره على ثلاثة أنواع من «القاعدة». الفريق الأول اتهم «القاعدة السورية» ورأى أن مخابرات تلك الدولة نظمت هذه الشلة وأرسلتها إلى لبنان لتخريب الأمن وتقويض الدولة باسم تنظيم مجهول الهوية والأهداف. والفريق الثاني اتهم «القاعدة اللبنانية» وغمز من قناة الحكومة مشيرا إلى عجزها وتقصيرها وضرورة تغييرها. والفريق الثالث اتهم «القاعدة الأميركية» بأنها تريد «عرقنة» لبنان من خلال بث الفوضى وإدخال الأطياف السياسية في حرب استنزاف تأخذ تلك الأشكال الطائفية والمذهبية والمناطقية كما هو حال العراق الآن.
كل هذه التحليلات والتفسيرات والتأويلات تؤكد من جديد على أن هذا «البلد الصغير» ولد ليكون ذاك الملجأ الآمن لكل تعقيدات المحيط المجاور له وما يعكسه المحيط من تجاذبات إقليمية ودولية. والمثال الأخير الذي ظهر على ضفاف «نهر البارد» يقدم أوضح دليل على أن لبنان بات في وضع صعب يعرض كيانه إلى زعزعة قد تؤدي إلى هدم بنيته السكانية وإعادة ترتيبها في هيكلية تخالف ذاك الهرم السياسي الذي تأسس عليه قبل 87 سنة. فالانقسامات التي اندلعت في ضوء ما حصل في الشمال أعاد كشف البلد وفتح أبوابه لمجرى جديد من الرياح الدولية والإقليمية. وهذا ما يمكن ملاحظته من ردود الفعل الأميركية والفرنسية والسورية والإيرانية الملفتة للنظر على ما حصل في الشمال اللبناني.
رؤية مغايرة
واشنطن للمرة الأولى لم تتهم دمشق وطهران بما حصل في طرابلس والمخيم. وهذه إشارة لابد من قراءة معانيها. فالإدارة الأميركية لمحت إلى المخاطر وعبرت عن المخاوف ولكنها اتهمت تنظيم «القاعدة» مباشرة من دون المرور على سورية. والجديد في الموقف الأميركي يمكن تحليله على مستويين: الأول أن واشنطن ترى أن الدولة ضعيفة وغير قادرة وهي بحاجة إلى معونة (إقليمية ربما) لمساعدتها في احتواء «القاعدة». والثانية أن واشنطن ترى في تنظيم «القاعدة» قدرات هوائية واستثنائية تسمح له بالانتقال ويعبر الحدود ويطير في الأجواء ويحط في المكان الذي يختاره من دون رقيب أو حسيب.
القراءة الأولى أو الثانية للموقف الأميركي الجديد لاتحسب في مصلحة لبنان ودولته ومقاومته. فحين تسلك إدارة واشنطن سياسة تجهيل الفاعل فمعنى ذلك أنها في صدد اتخاذ قرارات لا تنسجم مع تصريحات سابقة. فإدارة جورج بوش كانت سابقا تتهم سورية وإيران في كل شيء وهي أصرت خلال السنوات الأربع الماضية على تحميل دمشق وطهران مسئولية تصدير المقاتلين إلى العراق. الآن فجأة ومن دون سابق إنذار أصبحت تتهم العراق بتصدير المقاتلين إلى لبنان ودول الجوار من خلال شبكة «القاعدة» وامتداداتها الدولية.
هذا الاختلاف في القراءة الأميركية هو أقرب إلى انقلاب في الموقف بنسبة 180 درجة. فبعد أن كانت التهمة هي أن سورية وإيران تصدران المقاتلين أصبح العراق هو من يقوم بمهمة التصدير. ومثل هذا الانقلاب في الرؤية الأمنية يعني بداية تعديل في التقدير السياسي وربما التحالفات الإقليمية.
تركيز الإعلام الأميركي على أن «القاعدة» تقف وراء حوادث «نهر البارد» ليس عفويا أو مجرد خطأ طباعي ترتكبه الصحف عادة وإنما هو إشارة سياسية على ولادة مزاج أخذ يرتفع منسوبه التنظيري في إدارة واشنطن. فالتغيير ليس بسيطا حين تصل درجته إلى معدل 180. فالتعديل هذا يعني بداية استعداد للتعاون مع قوى إقليمية للمساعدة في مطاردة خلايا نائمة وطائرة وعابرة للحدود من العراق إلى الجوار. هل وصلت واشنطن إلى هذه الدرجة من التغيير؟ حتى الآن تبدو الإشارات خجولة ولكن الأسابيع والاشهر المقبلة ستوضح الكثير من الخفايا والخبايا.
الأمور إذا في لبنان لا تسير في الاتجاه الصحيح الذي يناسب الكيان والدولة والمقاومة. فالمؤشرات الأميركية تدل على بداية في التغيير وتعديل الاتجاهات. وحين تكون التهمة السابقة موجهة ضد سورية وإيران فمعنى ذلك أن على دول المنطقة التعاون لتعديل أو تغيير سلوك النظامين، أما حين تصبح التهمة الجديدة موجهة ضد العراق فمعنى ذلك أن على أميركا أن تتعاون مع سورية وإيران على ضبط انفلات شبكات «القاعدة» من بلاد الرافدين إلى لبنان وربما غزة.
هذا الانقلاب الأميركي إذا استمر يمكن رصد بداياته وتداعياته من خلال متابعة السلوك الفرنسي الجديد في أمور تمس التوازن اللبناني الداخلي أو من خلال ملاحظة ردود الفعل السورية والإيرانية على حوادث «نهر البارد» عشية بدء اللقاءات في بغداد بين طهران وواشنطن.
التصريحات السورية أصرت على اتهام «القاعدة» مؤكدة على أن نظام دمشق هو ضحية تلك الشبكة الإرهابية كما هو حال لبنان والعراق. ولم تقتصر التصريحات على إعلان البراءة وإنما أشارت إلى أن ظهور «فتح الإسلام» في مخيمات الشمال يؤكد على ضعف الدولة اللبنانية وعدم قدرتها على الحسم العسكري أو الاحتواء السياسي. والتشديد على ضعف الدولة له معنى يتعدى حدود لبنان السياسية ويلمح إلى استعداد إقليمي لمعاونة أميركا في ضبط الوضع. وهذا تحديدا ما أشارت إليه تصريحات واضحة أطلقها وزير الخارجية الإيراني حين أبدى استعداد طهران لتقديم مساعدة في هذا الشأن.
مسألة مخيم «نهر البارد» كبيرة وساخنة ومتشعبة أهليا وسياسيا وممتدة إقليميا ودوليا. وبسبب ضخامة المشكلة توقفت عجلة الحسم العسكري على مداخل المخيم ومخارجه. فالمداخل ليست بسيطة وكذلك المخارج وخصوصا إذا ترافقت معها انقسامات لبنانية مخلوطة بانقسامات فلسطينية ومعطوفة على توتر إقليمي بات يشهد بداية تحول في الموقف الأميركي سواء على مستوى توجيه الاتهامات أو على مستوى تنظيم لقاءات للبحث في التعاون لمطاردة شبكات «القاعدة» الطائرة في الهواء أو العابرة للحدود من العراق إلى لبنان... وربما غزة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1726 - الإثنين 28 مايو 2007م الموافق 11 جمادى الأولى 1428هـ