الصراع حدث ميداني جلي يشهده جميع أفراد المجتمع، ويتأثرون به، ولذلك كانت الصراعات الاجتماعية محل عناية المجتمع بأكمله خصوصا إذا كانت بين المتدينين، الذين هم محل لاحترام الجميع ومحط أنظارهم، لما لهم من المكانة والتقدير والقداسة في النفوس، وسأحاول من خلال مشاهداتي وما قرأته عن المجتمعات القريبة منا في العادات والتقاليد والبيئة أن أرصد وأسجل مواقف أفراد المجتمع المحتملة من الصراعات التي تنشأ بين المتدينين.
(1) أفراد يتفاعلون مع الصراع، فيصبحون ناره الموقدة وجمره المستعر، يخوضون الحروب بالنيابة والوكالة، إما لميلهم وحبهم لأحد الطرفين، أو لأنهم انخدعوا بالشعارات وانطلت عليهم الشائعات والاتهامات، أو - وهو أحسن الفروض - دفعتهم البساطة وحرّضهم قلة النضج في فهم الحياة وصراع الإرادات والقوى، فأحلوا الصراع بديلا شيطانيا عن التنافس الخيّر «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون».
هؤلاء عادة يكونون أكثر عنفا في الصراع، وأشد مراسا من الأصلاء، وكما يقول المثل الشعبي «المحمي على النار أشد حرارة من النار» فالأصيل يعلم السبب الحقيقي للصراع ويتعامل معه بحجمه، أما هذا المغلوب على أمره، فلا يعلم شيئا عن حقيقة الصراع وخلفياته، بل هو مشحون ومعبأ، وبحجم المادة المضغوطة التي عبئ بها يكون عنفه وتشطح قسوته.
هذا النوع من الناس لا يقبل المحاورة والنقاش لأنه غير قادر عليهما من جهة، ومن جهة أخرى هو مزود بردود عامة لكل نقاش وحوار كأن يَحمِل الطرف الآخر على الكذب، والخداع والنفاق، أو التبرير والمراوغة.
إن المانع الحقيقي لهؤلاء من التفكير والتأمل في الأفكار والأطروحات التي يتبنونها هو الصنمية والتقديس والحب الأعمى لشيء ما قد يكون حزبا أو جماعة أو توجها أو شخصا أو أي شيء آخر، فهم مشبعون حتى الثمالة بأن الإخلاص لتوجههم ورأيهم وفئتهم، يعني المزيد من العداء والبغض تجاه الآخرين، وأي اعتدال سيساوي عندهم الميوعة في الموقف، والتنازل عن الحق، والمساومة على القيم.
(2) أفراد لا يتفاعلون مع الصراع ولكن يتأثرون بنتائجه، أي يتبنى نتيجة موقف أحد الأطراف من الآخر، فيقتصر في علاقاته الاجتماعية وتعاطيه الديني على طرف معين، من دون أي استعداد لأن يتعاطى مع الأطراف الأخرى بالروحية نفسها والطريقة نفسها، فاستماعه وصلاته وعقوده وعلاقاته وزياراته، وهلاله للشهر الكريم أو لغيره، كل هذه محصورة بذلك الطرف، مع مقاطعة تامة للأطراف الأخرى، وفي مختلف النشاطات الاجتماعية العامة، ولكن ليس على خلفية عداء يمارسه ضدهم، بل قد لا يرضى حديثا يسيء لأي أحد.
وفي كثير من الأحيان تكون هذه العلاقة وهذا الالتصاق وليدة العادة والاستمرار، أو وليدة للثقة البريئة والحسنه، وهي علاقة طبيعية، لم تبن على أساس من صراعات الآخرين وتبني حركتهم العدائية.
(3) أفراد ينفرون من الجميع: ويبتعدون عن كلا الطرفين بما يحملان من خير وشر لذلك المجتمع، إذ «يتأثر الناس في نظرتهم إلى أي فكرة أو مبدأ بالواقع المنتسب إلى تلك الفكرة أو المبدأ، سلبا و إيجابا، وكما يقال فالناس عقولهم في عيونهم، فالواقع الجميل يعتبر عامل جذب وتبشير بالفكرة التي يرتبط بها، بينما يُنفّر الواقع السيئ من أي فكرة ينتسب إليها. والإسلام كمنظومة قيم وتشريعات إلهية عظيمة، يجب أن تنعكس وتتجلى في حياة المؤمنين به ليكون ذلك دافعا لإقبال الآخرين على اعتناقه والالتزام به من خلال مشاهدتهم لنموذج تطبيقي مشرف. أما لوحصل العكس وكانت حياة المتدينين سيئة متخلفة، فإن ذلك سيسبب عزوفا عند الآخرين من الدين» (مجلة «الكلمة»/ عدد 19/ وحدة الأمة ومسئولية العلماء/ صفحة 98 / الشيخ حسن الصفار).
والعذر الواضح لهؤلاء النافرين أنهم لا يثقون بالطرفين، ولا يتعاملون معهما، حتى يصلح الطرفان ما بينهما، فتضعف نشاطات المجتمع، ويقل المنشغلون بآماله الكبرى، وطموحاته الرئيسية. إنها الموسيقى التي أجادت الأكثرية من أبناء المجتمع العزف عليها، لتبرير تقاعسها وانسحابها من ميادين الخدمة والعطاء، ولتغطية ضعفها عن أن تكون صاحبة موقف ورأي يحملها مسئولية مجتمعها، ويدفعها لإصلاحه.
(4) أفراد يتعاطون مع الجميع ولا يتأثرون بالصراعات القائمة، ويندر وجود هؤلاء في كل المجتمعات، ذلك كما يقول المثل الشعبي «الرصاص الذي لا يصيب يدوِش»، لكنهم على قلتهم يوجدون في كل المجتمعات، قلوب بيضاء، ونفوس صافية، ومحبة للجميع، وفي الحقيقة هؤلاء يحملون الآخرين على محمل من الخير، فلا يفرقون بين الآخرين في تعاملهم، ولا يساهمون في تقزيم الآخرين بسلوكهم، بل هم أهل لكل خير وصلاح أنى كان هذا الخير، ومع من كان هذا الصلاح.
والنتيجة:
هي ذهاب الجهد وتمزق المجتمع، وضعف الفئات والتوجهات.
ذلك إن قسما يشارك الصراع مع أحد الأطراف، فهو يمزق ويزيد من التمزيق كلما زاد عنفا وفحشا في الصراع.
وقسما آخر يكرس التباعد بفعله، لأنه يتعاطى مع جهة ويقاطع الأخرى، ويقابله في المجتمع فرد أو جماعة أخرى تعمل في اتجاه معاكس، فتواصل من يقاطعه وتقاطع من يواصله، وبذلك يتحول الانقسام والتمزق إلى واقع يمارسه المجتمع بنفسه جراء تصرفات أفراده ومجاميعه.
والقسم الثالث، ينفر من الجميع، وقد سقطت من عينه مكانتهم العالية وتزعزعت ثقته الكبيرة بهم. ويبقى القسم الرابع وهم صفوة المجتمع، في سلمهم وإنسانيتهم وحبهم للجميع، ويبقى معهم سؤال ملح: هل يمكن أن يكون هذا اللون من الناس وهم قلة - غالبا - بديلا عن المجتمع بأكمله، في تحقيق الألفة والتراص الداخلي ومن ثم الاندفاع نحو تبني نواقص المجتمع ومشروعاته المهمة؟
غالب الظن ليس كذلك لأن هذا الوجود الشحيح من الناس سيتعرض لإطلاق النار من الجميع، بسبب (وهذا رأي الفرقاء المتصارعين) أن هؤلاء لا يمتلكون موقفا واعيا، ولا يتخذون رأيا ثابتا مما يجري حولهم.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1725 - الأحد 27 مايو 2007م الموافق 10 جمادى الأولى 1428هـ