بدأ اليوم في بغداد الحوار الأميركي - الإيراني بشأن الملف العراقي. ويأتي اللقاء بعد سلسلة تجاذبات سياسية بين الطرفين تأسست على اتهامات أطلقتها واشنطن ضد طهران. فالإدارة الأميركية طرحت مجموعة أفكار تقويضية فور احتلال العراق وتحطيم الدولة وحل الجيش وتحويل بلاد الرافدين إلى مزارع وإقطاعات مشرعة الحدود. ومنذ العام 2003 حدد تيار «المحافظين الجدد» خطته وأعلن أنه يريد إعادة رسم خريطة «الشرق الأوسط» وزعزعة استقرار المنطقة وتغيير الأنظمة أو تعديل سياساتها. وأدت هذه الخطة إلى نوع من الفوضى وزرعت المخاوف في دول الجوار وتحديدا في سورية وإيران.
الآن وبعد مرور أربع سنوات على تلك الكارثة أخذت واشنطن تعيد تدوير الزوايا الحادة وسحبت الكثير من الشعارات الأيديولوجية من سوق التداول وخففت من اتهاماتها لدول الجوار، وخصوصا دمشق وطهران، بأنها تقف وتموّل وتدرّب وتسلّح وترسل المقاتلين إلى العراق للقيام بعمليات عسكرية وانتحارية بهدف إفشال الولايات المتحدة من تحقيق غاياتها.
تدوير الزوايا في الخطاب الأميركي الرسمي يطرح احتمالات كثيرة منها، أولا: أن واشنطن بدأت تعترف فعلا بفشلها وأنها تخطط لانسحاب مشرّف لا يعرض مصالحها الأمنية والاقتصادية والإقليمية والاستراتيجية للخطر.
ثانيا: إن واشنطن تناور وتحتال وتريد تغطية فشلها من خلال إعادة هيكلة استراتيجيتها في سياق يأخذ في الاعتبار موازين القوى على الأرض.
ثالثا: أن واشنطن لم تتراجع عن خطة التقويض التي أعلنت عنها بوضوح بعد سقوط بغداد وهي الآن تتبع سياسة لكسب الوقت وثم توجيه ضربة غير محسوبة تتوقع منها نتائج تنقذ سمعتها وترمم صورتها.
الاحتمالات الثلاثة مطروحة، وإيران كما يبدو الأمر من تصريحات قيادتها السياسية ترجح «الأول» ؛ أي أن واشنطن فشلت وهي لم تعد في موقع يسمح لها بالهجوم أو البقاء وتبحث فعلا عن مخارج لإنقاذ ما تبقى من هيبة إقليمية ودولية. وربما شكل هذا التحليل للمأزق الأميركي أساس القراءة الإيرانية لإمكان المساعدة في إيجاد قنوات تسمح بخروج قوات الاحتلال من دون تداعيات سلبية في العراق ودول الجوار.
كل هذه المناخات البعيدة والقريبة أملت على طرفين أيديولوجيين ممارسة البراغماتية وترتيب لقاء اليوم في بغداد. فإيران متخوّفة من أميركا (الشيطان الأكبر) وهي أيضا بحاجة إليها للكثير من الاعتبارات. وأميركا متخوّفة من إيران (محور الشر) وهي أيضا بحاجة إليها لحسابات مختلفة. والحاجة كما يقال «أم الاختراع» فهي تؤثر كثيرا على العقل وتضغط عليه للتفكير والعمل على ابتكار أدوات تساعد في التعامل بواقعية مع الصعوبات للوصول إلى غايات قريبة وبعيدة. وبسبب هذه الحاجة المتبادلة لا يستبعد أن تتحوّل فجأة «الأيديولوجيا» إلى نوع من البراغماتية تستحدث الشروط والتبريرات والذرائع لإعادة توظيف «العداء» في سياسة تضمن مصالح الطرفين من دون أن تتحوّل إلى «صداقة» دائمة وثابتة.
هذا الاستنتاج يمكن التقاط خلاصته من تلك الورقة التي قدّمتها إيران في قمة شرم الشيخ. فالورقة تضمنت 13 بندا تبدأ برفض خروج القوات الأميركية بشكل سريع وعشوائي حتى لا تختلط الأوراق، وتنتهي بتأمين انسحاب مشرّف للاحتلال وفق جدول زمني. وبين البند الأول والأخير وضعت الورقة التصورات الإيرانية لعملية التسلم والتسليم. مبدئيا يمكن القول: إن واشنطن باتت في وضع يسمح لها بالموافقة على البندين الأول (البقاء لفترة زمنية) والثاني (جدولة انسحاب مشرف) إلا أن الغموض لايزال يكتنف خطة التسلم والتسليم. ويرجح أن تكون مسألة هذه الخطة هي موضع التفاوض بين الطرفين الأيديولوجيين في لحظة مفارقة. فهل تقبل واشنطن بالنقاط 11 الأخرى التي تضمنتها الورقة الإيرانية أم أنها ستحاول التفاوض عليها وتعديلها؟ التفاوض والتعديل يحتاجان إلى وقت ولا يمكن التفاهم عليهما في لقاء واحد وبمعزل عن قوى أخرى موجودة بقوة ولها تأثيرها المباشر وغير المباشر على العراق. هذا أيضا سيطرح احتمالات أخرى مثل توسيع طاولة المفاوضات وإدخال السعودية والأردن وسورية وتركيا ومصر في محاولة لإشراكها في الحل والخروج بموقف مشترك يعكس توازن المصالح الدولية والإقليمية والجوارية.
بداية حوار
الحوار إذا الذي انطلق اليوم في بغداد ليس سوى بداية. والبداية دائما تطرح عناوين عامّة قبل أن تدخل في «التفصيلات». والتفصيلات تحتاج إلى وقت وآليات تسمح بإنتاج تسوية معقولة ومقبولة ترضى عنها مختلف الأطراف المعنية بالأزمة وتداعياتها. ولهذا يحتمل أن تتأجل الكثير من النقاط العالقة ؛ليعاد بحثها في صورة موسعة في حال اتفق الطرفان على مواصلة النقاش. أما إذا اكتشفت واشنطن أو طهران أن الحوار مجرد مضيعة للوقت فمعنى ذلك أن الأمور ستسير في اتجاهات معاكسة لكل الرهانات والتوقعات.
المشكلة كانت ولاتزال في الجانب الأميركي. إيران التقت أميركا على إسقاط النظام السابق وتعزيز سلطة النظام الحالي واختلفت معها على الفوضى وتخوفت من حشودها العسكرية التي تشكل خطرا عليها وعلى المنطقة؛ لذلك أوضحت من جهتها خطتها ومطالبها في العراق في الورقة التي رفعتها إلى قمة شرم الشيخ. الرد الأميركي اكتنفه الغموض حين سارعت واشنطن إلى إرسال نائب الرئيس ديك تشيني إلى المنطقة متجاوزا بذلك صلاحيات وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس. وتشيني خلال جولته أطلق تصريحات نارية محاولا إثارة المخاوف وتأسيس جبهة مضادة. ويبدو أن تشيني فشل في أخذ ما يريد وكسب ورقة ضغط عربية تساعده على التفاوض من موقع القوة والتهديد مع طهران.
هذا الغموض (التذبذب) الأميركي لايزال يسيطر على استرايتجية «البيت الأبيض» حتى اليوم. فالرئيس جورج بوش يرسل يوميا إشارات متعارضة بشأن الملف العراقي تتراوح بين التهديد وبين الاستعداد للانسحاب «إذا أراد الشعب العراقي ذلك». ولعلّ هذا الغموض يفسّر تلك الفوضى السياسية والأمنية التي تعصف بالمنطقة من العراق إلى لبنان وغزة.
الإدارة الأميركية أصبحت في صراع مع الوقت ولم يعد أمام قيادتها الخرقاء سوى مدة زمنية قصيرة لتحسم مواقفها وتجيب عن سؤال: ماذا أرادت أصلا من حربها على العراق، وماذا كانت خطتها وأهدافها الحقيقية من سياسة التقويض التي لجأت إليها في بلاد الرافدين وغزة ولبنان؟
الأجوبة تحتمل تفسيرات وتأويلات. فهل هي أصلا خططت للفوضى أو هي كانت تريد إقامة «نموذج ديمقراطي» انقلب عليها وتحوّل إلى كابوس يرهق جيشها وموازنتها؟ حتى الآن تتحايل واشنطن وتتهرّب من تقديم جواب نهائي. إلا أن حبل الكذب قصير وهذا ما أشار إليه تقرير «لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ» عن تحذيرات رفعتها المخابرات المركزية الأميركية في العامين 2002 و2003 إلى إدارة بوش بشأن المخاطر المتوقعة من الحرب على العراق واحتلاله. فالمخابرات أشارت إلى احتمال انهيار الوضع وتفكك بلاد الرافدين واندلاع اقتتال طائفي ومذهبي وانتشار الفوضى وتحسين موقع إيران وإعطاء فرصة لطهران في المساهمة بإعادة تشكيل دولة العراق.
هذا التحليل المخابراتي قدّم في صورة معلومات رفعت إلى إدارة بوش قبل الدخول في المغامرة... ودخل بوش وهو الآن بات في موقع يفاوض إيران على تقرير مستقبل بلاد الرافدين. مع ذلك يبقى السؤال ماذا بعد؟ هل اكتفت واشنطن بهذا القدر من سياسة التقويض والتحطيم والتدمير أو أنها تخطط للمزيد؟ فالعراق تقوض ولبنان تحطم وسلطة ياسر عرفات تدمرت. «ماذا بعد» سؤال لابدّ من تجديد طرحه وسط غموض يسيطر على سياسة أميركية تعتمد ازدواجية تشجع على التنافر والاقتتال والتناحر. وما حصل في بغداد وغزة بيروت كلّها مؤشرات تدل على أن واشنطن لاتزال تلعب خلف خط النار.
اليوم يبدأ الحوار الأميركي - الإيراني في بلاد يشقها من الشمال نهر دجلة ونهر الفرات ليلتقيا في الجنوب ويشكلا «شط العرب». فهل يلتقي النهران في مجرى واحد أو يذهب كلّ نهر في مجراه ليصب في مكان آخر؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1725 - الأحد 27 مايو 2007م الموافق 10 جمادى الأولى 1428هـ