استعرض المقال السابق الاستراتيجيات المؤسسية المطلوبة لإنشاء بيئة تمكينية قوية وقادرة على إدارة المياه الجوفية بكفاءة في دول مجلس التعاون، وشمل ذلك إنشاء ترتيب مؤسسي مستقل وفصله عن القطاعات المستهلكة للمياه، وإعطاءه السلطة والمساندة السياسية القوية، والتركيز على تقوية العنصر البشري الوطني في هذه المؤسسات من خلال برامج بناء القدرات والتدريب وخصوصا في المجالات ذات الصلة بتخطيط الموارد المائية واستخدام المنهجيات والتقنيات العلمية الحديثة في إدارة موارد المياه الجوفية، مع دعم ذلك برفع مستوى التعاون بين الجهات المسئولة عن المياه والجهات البحثية في دول المجلس. وستكون هذه الإصلاحات المؤسسية الخطوة الرئيسية الأولى في طريق زيادة كفاءة مستوى الإدارة المائية للمياه الجوفية في دول المجلس، كما أنها ستكون الركيزة الأساسية للقيام بوضع التشريعات وتنفيذها وتطبيق الأدوات الاقتصادية وتطبيق إجراءات المحافظة والحماية لموارد المياه الجوفية في هذه الدول.
ومع زيادة التنافس على المياه الجوفية المحدودة في دول المنطقة، سواء على مستوى القطاعات المستهلكة لهذه المياه أو على مستوى المستخدمين الأفراد، وتضارب المصالح بينهم يصبح إجراء الإصلاحات التشريعية من الأمور الرئيسية المطلوبة لإنشاء هذه البيئة التمكينية، وذلك من خلال تحديث أو وضع التشريعات والقوانين المناسبة لتنظيم استخدام المياه الجوفية، ولتقييد الأنشطة التي قد تعرض للخطر كميات المياه الجوفية المتاحة ونوعيتها. ويعتبر الكثير من الباحثين أن وجود التشريعات الشاملة والمتكاملة هو العنصر الأكثر أهمية في عملية تخطيط وإدارة الموارد المائية الجوفية والمؤثر الرئيسي في رفع كفاءتها.
وتشمل هذه التشريعات الكثير من الأمور من أهمها: أولويات استعمال المياه وتوزيع حصصها (حقوق سحب واستخدام المياه الجوفية)، وحماية المياه الجوفية من التلوث السطحي (الصناعي والزراعي والبلدي) أو تحت السطحي (عمليات النفط)، وحماية البيئات الحيوية المعتمدة على المياه (بيئات الينابيع الطبيعية والأفلاج)، ومتطلبات تسجيل وأهلية حفر الآبار والتحكم فيها، وإمكان التدخل الإداري في الحالات الحرجة (نضوب المياه الجوفية أو تلوثها)، والتدابير المطلوبة لضمان التفاعل بين مستخدمي المياه الجوفية والمسئولين عنها ووضع آليات لحل النزاعات، ومراقبة كمية ونوعية المياه الجوفية ومعدلات السحب منها، بالإضافة إلى وضع العقوبات المناسبة والرادعة للمخالفين لتعديهم على حقوق المجتمع ككل في هذه المياه وتعريضهم هذه المياه للخطر، والأهم من ذلك كله، إعطاء الأجهزة المسئولة عن المياه الحق القانوني لتطبيقها.
وفي دول المجلس، إذا نظرنا إلى التشريعات والقوانين المائية ووضعها الحالي في هذه الدول، فسنجد، وبشكل عام، بأنها لم تحظ بالاهتمام الكافي في عملية تخطيط وإدارة المياه الجوفية، وبأنها في مجملها مجزئة وغير شاملة تم وضع معظمها كرد فعل عند بروز مشكلة معينة وليست ضمن إطار تشريعي شامل ومتكامل في هذه الدول، وحتى في حالة وجود هذه التشريعات والقوانين المجزئة، فإن أغلبها غير مطبق. فعلى سبيل المثال نجد أن معظم قوانين تنظيم وترخيص حفر آبار المياه الجوفية يتم تجاوزها في هذه الدول، سواء بشكل غير مشروع أو كاستثناءات. وللدلالة على ذلك لنأخذ هذا المثال: تم في مملكة البحرين في العام 1980 إصدار مرسوم أميري (مرسوم أميري 12/1980) خاص بتنظيم استخدام المياه الجوفية والمحافظة عليها، وتم إصدار قوانين وزارية لمنع حفر الآبار الجديدة لمدة أربعة سنوات خلال الفترة 1980-1984 (قرارات وزارية 23/80، 4/82) لإتاحة الفرصة للمياه الجوفية أن تستعيض مستوياتها وتتحسن نوعيتها. إلا أن المراقب لعملية حفر الآبار خلال هذه الفترة سيجد أن عملية حفر الآبار لم تستمر فحسب، وإنما كذلك زادت وتيرتها ومعدلات نموها! ولا يختلف الحال كثيرا في باقي دول المجلس، فالسحب غير المشروع وغير المدروس والقصور في تنفيذ الإجراءات القانونية ضد عمليات الحفر غير المشروعة، أضف إلى ذلك غياب الرصد والمراقبة للكميات المستهلكة، هو السمة السائدة في هذه الدول.
وقد يكون من المفيد قبل الخوض في هذا الموضوع إلقاء نظرة سريعة على كيفية تطور التشريعات المائية وأصولها في دول العالم بشكل عام، ومن ثم مقارنة هذا التطور بالوضع في دول المجلس. وسيجد الباحث في هذا الموضوع بأنه منذ القانون الروماني وحتى ظهور القانون الفرنسي المدني وقانون العموم البريطاني، اللذين يمثلان الأساس لمعظم القوانين في دول العالم والأكثر انتشارا، فإن التنظيم القانوني لاستخدام المياه الجوفية يتبع التنظيم القانوني للأرض التي تعلوه. بمعنى آخر تعطي هذه القوانين صاحب الأرض الحق المطلق لاستخدام المياه الجوفية الواقعة تحت أرضه، ويمكنه أن يسحب من المياه الجوفية الكميات التي يريدها بدون قيود حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بالآخرين. وحتى وقت قريب، سنجد أن معظم الدول الأوروبية والعديد من الدول التي تم استعمارها من قبل بريطانيا وفرنسا (ومنها دول إفريقيا والشرق الأوسط) قد اتبعت هذا التنظيم القانوني لاستخدام المياه الجوفية. إلا أن هذا التنظيم، ومع زيادة استخدام موارد المياه الجوفية وتدهورها، قد تم التخلي عنه من قبل العديد من الدول، وتم استحداث قوانين وتشريعات متكاملة وشاملة تسمح للدولة والمسئولين فيها بالتحكم في الكميات المسحوبة من المياه الجوفية واتخاذ الإجراءات المطلوبة كافة لحمايتها واستدامتها. ولعلّ من أبرز الأمثلة على ذلك هو الإطار التشريعي الموجود ضمن وثيقة إطار سياسات المياه لدول الاتحاد الأوروبي الذي تم وضعه في العام 2001 ووجهت جميع الدول الأعضاء في الاتحاد بتطبيقه تدريجيا وكحد أقصى بحلول العام 2015.
ومن أهم مبادئ هذا التوجه العالمي في إدارة المياه الجوفية هو اعتبارالمياه الجوفية من الأملاك «العامة» التي تمتلكها الدولة، وتكون مؤتمنة على إدارتها والمحافظة عليها نيابة عن المجتمع. وبناء عليه، إعطاء الدولة، ممثلة بالأجهزة المسئولة عن المياه الجوفية، باتخاذ الإجراءات التنظيمية اللازمة لمنع سوء استخدامها وتلوثها وحمايتها من الاستنزاف. وهنا يتم تحويل مالكي الآبار إلى مستخدمين للمياه الجوفية، يتوجّب عليهم التقدم بطلباتهم إلى الدولة/ الأجهزة المسئولة للحصول على تراخيص وحقوق الاستخدام للمياه الجوفية. كما تمنح هذه المبادئ الدولة الحق في التدخل وتحديد الكميات التي يمكن سحبها من المياه الجوفية بهدف المحافظة عليها للمصلحة العامة، مع الأخذ في الاعتبار المصالح الخاصة والحقوق التاريخية المكتسبة للأفراد في استخدام المياه.
وقد يثير انتباه الباحث في مجال التشريعات المائية في دول مجلس التعاون أمران، أولهما هو الفجوة الكبيرة بين التوجهات العالمية وبين ما هو مطبق في دول المجلس، وثانيهما هو التقارب بين المبادئ العالمية المذكورة أعلاه، وخصوصا تلك المتعلقة بملكية المياه الجوفية وحقوق استخدامها وتنظيمها، وبين مبادئ التشريعات المائية في الدين الإسلامي الحنيف، وسيكون هذا موضوع المقال القادم.
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1724 - السبت 26 مايو 2007م الموافق 09 جمادى الأولى 1428هـ