توقيت إرسال الولايات المتحدة المساعدات العسكرية (الذخائر والقذائف) إلى الحكومة اللبنانية بعد اندلاع المواجهات الأمنية في شوارع طرابلس وعلى ضفاف مخيم نهر البارد الفلسطيني أعطى ذريعة للقوى السياسية على أنواعها في طرح أسئلة بشأن الموضوع والسرعة في تلبية الطلب. فالأسئلة مشروعة من أي جهة جاءت لأنها تضع المسألة في إطارها السياسي وسياق التحولات الدراماتيكية التي أخذت تشهدها المنطقة على المستويين الدولي والإقليمي.
التوقيت يرسل إشارات سيئة. فالدولة طالبت واشنطن منذ نحو العام بتزويد الجيش بالمعدات والذخائر وكررت مطالبتها منذ أكثر من شهرين وترددت الإدارة الأميركية وناورت على الموضوع لاعتبارات كثيرة منها مثلا أن سياسة «البيت الأبيض» ليست متحمسة لتقوية مؤسسات بلد يعاني من صعوبات بينها عدم قدرة الأجهزة على ضبط وضعه الأمني. هذا السلوك بررته إدارة جورج بوش بالضعف اللوجستي وعدم وجود مستودعات جاهزة لتلبية طلبات أنواع من الذخيرة تستخدم لأسلحة ودبابات ومدفعية قديمة.
الولايات المتحدة تذرعت بالأسباب التقنية والفنية لتفسير تأخرها، وهذا كما يبدو أخذت به الحكومة وصدقته. ولكن هناك احتمالات كثيرة يمكن أن تعطي تفسيرات سياسية للموضوع ربما تساعد على توضيح بعض الزوايا الغامضة قد تتصل بوجود مؤشرات على متغيرات طرأت على قواعد اللعبة الدولية.
المسألة إذا قد نجد تفسيرات لها في السياسة وتتجاوز حدود نهر البارد في الشمال اللبناني. فالمعركة التي افتعلها هذا الطرف المشبوه الذي يطلق على نفسه «فتح الإسلام» لم تكن مصادفة لأن القصد منها يتعدى الإطار الميداني الذي تحصل فيه المواجهة. فالمعركة أكبر وما ظهر منها في الشمال مجرد رؤوس أقلام لسياسة لابد من مراقبتها لمعرفة الأبعاد وما يترتب عنها من تداعيات قد تجرف الكثير من المراهنات والتوقعات.
ما حصل في مخيم نهر البارد قد يكون بداية سيناريو «النهر الساخن» الذي تطرقت إلى احتماله أكثر من صحيفة وجهات رسمية دولية وإقليمية. الكثير من المحللين ذكروا أن صيف منطقة «الشرق الأوسط» سيكون ساخنا. حتى الرئيس الأميركي أشار إلى هذا الاحتمال بعد مصادقة الكونغرس على موازنة الحرب في العراق وأفغانستان. الموازنة التي صادق عليها الكونغرس بعد أخذ ورد بين «الجمهوري» و»الديمقراطي» لمدة أربعة أشهر اشتملت على قسمين: الأول تغطية نفقات الحرب بقيمة 96 مليار دولار. والثاني مجهول الأسباب ويتضمن نفقات غير معلومة تصل إلى 24 مليار دولار.
المجموع العام لموازنة الحرب والنفقات وصلت إلى 120 مليارا وهي تكفي كما يقال إلى نهاية شهر سبتمبر/ أيلول. وهذا يعني أن إدارة بوش أصبحت في موقع مريح بعد أن حشدت أساطيلها في الخليج وزادت عدد قواتها نحو 30 ألفا يتوقع أن تصل الدفعة الأخيرة منها في 15 يونيو/ حزيران المقبل.
التوافق الأميركي على موازنة الحرب معطوفا على توقع بوش بوجود صيف ساخن في المعركة الأمنية في العراق وأفغانستان وما يسميه بالحرب العالمية على شبكات الإرهاب الدولية لا يمكن فصله عن تلك الإشارات التي حذر منها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في خطاب ألقاه أمس الأول في أصفهان. خطاب الرئيس الإيراني واضح في تلميحاته ويصب في السياق الذي ذهب إليه الرئيس الأميركي بعد التصديق على موازنة الحرب. فالرئيس أحمدي نجاد حذر في خطابه من عدوان جديد على لبنان في الصيف المقبل، وقال إذا كررتم الاعتداء «فأنا أقول لكم إنكم مخطئون». وربط تحذيره بكلام عام عن أن «شعوب المنطقة ستغضب وتقتلع النظام الصهيوني من جذوره».
كلام الرئيس الإيراني عن سيناريو الصيف الساخن في لبنان يرسم ملامح بعيدة لذاك السيناريو الذي اندلع فجأة في «النهر الساخن» في شمال لبنان. وبغض النظر عن توقعات أحمدي نجاد ورؤيته للفشل وردود الفعل الشعبية في المنطقة فإن كلامه يمكن أن يوضع في مكانه الصحيح إذا أخذ جديا وربط بإطار أوسع.
متغيرات ومفارقات
الإطار الأوسع يبدأ في ذاك المتغير الدولي الذي أخذت إشاراته تزداد وضوحا بعد الانتخابات الفرنسية وخروج جاك شيراك من قصر الإليزيه وصلة هذا الموضوع بالاستراتيجية الأميركية الداعمة لأمن «إسرائيل» ومصالحها. تل أبيب تملك أولويات في برنامجها الخاص وهو يتعارض في منهجه العام عن قائمة الأولويات اللبنانية. فالحكومة الإسرائيلية تضع أمنها على رأس الجدول ولا تكترث بموضوع «المحكمة ذات الطابع الدولي». كذلك تقدم حكومة إيهود أولمرت مسألة حربها المشتركة مع واشنطن على شبكات الإرهاب على أمن لبنان واستقراره.
هذه الأولوية الإسرائيلية كانت تلاقي سابقا الدعم من أميركا والاعتراض من فرنسا شيراك. الآن وبعد دخول نيكولاي ساركوزي قصر الاليزيه تبدو الأمور مختلفة نسبيا عن المرحلة السابقة. وهذه المفارقة لا تختلف منهجيا في الخطوط العامة وإنما في التفصيلات وهي عادة «يكمن فيها الشيطان».
فرنسا ساركوزي ليست ضد لبنان ولكنها مع «إسرائيل». وما تريده منه تل أبيب يحتل موقع الأولوية. وبما أن أولويات تل أبيب تختلف عن أولويات بيروت فيرجح ان يتراجع اهتمام باريس بالمحكمة الدولية لمصلحة أمن «إسرائيل». وهذه المفارقات في التفصيلات ظهرت واضحة خلال زيارة وزير الخارجية الفرنسي الجديد برنار كوشنير الذي أرسله ساركوزي بسرعة إلى بيروت بعد اندلاع معارك «النهر الساخن». كوشنير في زيارته الأولى أطلق إشارات كافية لإعادة هيكلة سيناريو يختلف في بعض تفصيلاته عن سياسة شيراك. فالوزير أكد على نهج شيراك ولكنه أشار إلى أن «ظروف هذه الأزمة تغيرت عن الظروف السابقة». لم يوضح كوشنير ماهية الظروف التي تغيرت ولكنه أكد أيضا على أن فرنسا «ستتحاور مع كل مكونات الحياة اللبنانية». أيضا لم يوضح كوشنير المقصود بتلك «المكونات اللبنانية». كذلك وهذا هو بيت القصيد أشار إلى تأييد فرنسا للمحكمة الدولية مضيفا كلمة «لكن». ولكن تقول بحسب الوزير الفرنسي إن «هناك بعض المسائل يجب أخذها في الاعتبار لنكون عادلين ومتوازنين أكثر مما كنا عليه في السابق».
أحاديث كوشنير لابد أن تكون لفتت انتباه أعضاء الحكومة وبعض قوى «14 آذار». فالوزير أشار بحياء إلى وجود متغيرات في ثلاثة مسارات وهي تتعلق بالاتصالات والحوارات مع مختلف الاتجاهات اللبنانية، معطوفة على متغيرات في ظروف الأزمة، وأخيرا مربوطة بالمحكمة وعدالتها وتوازنها وانصافها. وهذا الاختلاف في القراءة يعني بوضوح أن وجهة ساركوزي متقاربة مع نهج شيراك ولكنها ليست متطابقة معه في المجموع العام.
الأولوية إذا للأمن وليس للمحكمة. وعلى هذا القياس يمكن فهم خطاب الرئيس الإيراني في أصفهان عن «الصيف الساخن» وكذلك يمكن قراءة تصريح بوش عن سخونة الصيف بعد أن وقع الكونغرس موازنة الحرب في شقيها المعلوم والمجهول.
المسألة الأمنية التي افتعلت بهذه الشراسة في طرابلس ومخيم «نهر البارد» لم تكن عفوية. فالطرف الذي قرر بدء الهجوم مستخدما أسلوب «الذبح بالسكاكين» أراد إثارة المشاعر واستدراج رد فعل عنيف على فعل شنيع. ومثل هكذا أعمال ترتكبها عادة جماعة متدربة وجاهزة ومستعدة للأعظم ولا تصدر عن شلة صغيرة مختلقة ومصطنعة ومحدودة الإمكانات. فما حصل هو جزء من سيناريو «النهر الساخن» الذي ورد في تصريح بوش وخطاب أحمدي نجاد وإشارات كوشنير عن أولويات (اهتمامات) فرنسية غير متطابقة مع نهج شيراك.
على الحكومة اللبنانية وقوى «14 آذار» أن تقرأ جيدا تلك المتغيرات حتى لا تتورط في مشروع أمني أكبر من لبنان ويمتد في خطوطه وقنواته واتصالاته إلى مسافات ومساحات تبدأ في العراق وتنتهي في غزة. وحتى تكون الحكومة والقوى المناصرة لها على بينة من الأمر يمكنها مراجعة تعليقات الصحف الأميركية وتصريحات وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بشأن ما يجري في «النهر البارد». فكل الكلام تركز على ربط «فتح الإسلام» بتنظيم «القاعدة» حين رأت الوزيرة أن الحكومة اللبنانية تواجه حملة متطرفة نظمتها «شبكات الإرهاب الدولية». وهذا يعني في المختصر المفيد أن الإعلام الأميركي ووزيرة خارجيته قرأ حوادث الشمال الدموية من وجهة مخالفة أو غير متطابقة مع تصريحات وآراء وتحليلات الكثير من القوى اللبنانية. وحين تتجاوز دولة كالولايات المتحدة الحدود السورية وتقفز عن هذا الاتهام للإشارة مباشرة إلى «القاعدة» من دون وسيط جغرافي (خط مرور) فمعنى ذلك أن واشنطن أخذت تقرأ التداعيات وفق منهجية تختلف عن تلك التي اعتمدتها في السابق. والاختلاف الأميركي بموضوع الأمن ليس بعيدا عن ذاك الاختلاف الفرنسي الذي أشار إليه كوشنير بحياء عندما تحدث عن رؤية مخالفة لموضوع «المحكمة الدولية». وحين يوضع الأمن قبل المحكمة فإن ذلك يؤشر إلى استعداد أميركي/ فرنسي إلى التعاون مع قوى إقليمية قادرة على تقديم المساعدة في هذا الشأن.
هذه الإشارات يمكن إعادة ربطها بذاك التوقيت الذي اختارته واشنطن لإرسال المعدات والذخائر إلى لبنان. فالتوقيت يلمح إلى أن الأولوية للأمن لا «المحكمة الدولية» وأن صيف لبنان وربما المنطقة ليس باردا.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1724 - السبت 26 مايو 2007م الموافق 09 جمادى الأولى 1428هـ