قبل حوالي ثماني عشرة سنة استمعت لأول مرة لخطبة الزعيم الأسود «مارثن لوثركنج» التي كان يردد فيها بين مقطع وآخر، «لديَّ حلم»، كان يحلم بنوع من التغيير الذي يحقق بعض العدالة للرجل الأسود في أميركا... لكنه، فيما يبدو، لم يكن يحلم أن يصبح رجل من أصل إفريقي رئيسا لأميركا وفي غضون نصف قرن على حلمه الذي كان يتطلع إلى تحقيقه.
أوباما، ذو الأصل الإفريقي، وذو الدِّين المزدوج أصبح الآن رئيسا لأميركا على رغم كل المعوقات وبفارق كبير جدّا على منافسه الجمهوري جون ماكين وبهذا تحقق لمارتن لوثركنج أكثر مما كان يتوقع بكثير!
وقفت، طويلا، عند كلمتي «جون ماكين» و»أوباما» بمناسبة خسارة الأول وفوز الثاني فوجدت حروف كل منهما تمتلئ حضارة ورقيّا قلّ أن نجد مثلهما عند كثير من الزُّعماء العرب في مثل هذه المناسبات، وإن كانت هذه المناسبات نادرة الحدوث إن لم تكن معدومة في كثير من الأحيان.
بكل بساطة اعترف جون ماكين بهزيمته، ولم يتهم أحدا بهذه الهزيمة لكنه أكتفى باتهام نفسه وحدها! ثم هنأ خصمه مباشرة بفوزه عليه، وطالب الجميع بالوقوف معه، ومؤازرته لأنه أصبح رئيسا لأميركا، وأميركا لكل الأميركان مهما تكن اختلافاتهم!
وأشار ماكين في كلمته إلى أن فوز أوباما يعد لحظة تاريخية ذات معنى للأفارقة! وكان محقاّ في ذلك.
أما أوباما فقد كان متواضعا وهو يعلن فوزه، وامتدح خصمه كثيرا، وأشار إلى تضحياته في سبيل أميركا، كما امتدح، أيضا، سارة بلين! لم يفعل كالكثيرين في عالمنا عندما يفوز أحدهم في انتخابات واضحة التزوير، يكون وحده فيها من دون منافس، إذ الويل كل الويل لمن يجرؤ على التفكير في ترشيح نفسه مقابل الزعيم الأوحد الذي لم ولن يخطئ ولو مرة واحدة في حياته، ومع هذا كله فهذا الزعيم الذي فاز بالتزكية، كما فاز بحب الشعب كله، لابد أن ينتقد بكل قسوة خصومه من الأحزاب الأخرى، هذا إذا كان له خصوم حقيقيون!
أوباما لم ينسب إلى نفسه الفوز بسبب قدراته الخارقة كما يفعل بعض الزعماء العرب أو المنتمين إلى دول العالم الثالث لكنه نسبه إلى كل الذين وقفوا معه، ابتداء من زوجته وانتهاء بكل أميركي وقف معه.
تعهد أوباما بأن يكون رئيسا لكل الأميركان، لم يفرق بين من كان معه وبين من لم يكن، فالخصام انتهى من لحظة فوزه، كما تعهد بأن يكون داعما للسلام في كل أنحاء العالم.
تحقق حلم مارتن لوثر وتحقق حلم كل الأفارقة الذين يعيشون في أميركا والذين كانوا يعاملون بصورة بشعة حتى وقت قريب!
كنت أشاهد الدموع في عيني القس جيس جاكسون وكذلك عيني وينفري ذائعة الصيت، فضلا عن دموع الفرح التي كانت تنساب بهدوء في عيون آلاف الأميركان من ذوي الأصول الإفريقية.
آن لهؤلاء أن يفرحوا فقد كان فوز أوباما حدثا تاريخيّا فاصلا ليس في الحياة الأميركية، كما أرى، بل في حياة كل الأقليات، وكل المستضعفين في العالم! لقد شعر هؤلاء أن الأمل تجدد في حياتهم، وأن كل شيء أصبح ممكنا الآن، وأن العمل الجاد سيجعلهم قادرين على تحقيق آمالهم مهما تكن.
في مطلع الستينات لم يكن هناك أي مؤشر على فوز أي أسود بأي منصب له قيمة في أميركا، أما الآن فقد تغير كل شيء! رجل إفريقي من عامة الناس، ليس له وجاهة، ولم يكن صاحب مال ولا علم، يتزوج من أميركية ثم يطلقها بعد أن تنجب له طفلا... يعيش الطفل حياة بائسة بين أندونيسا وأميركا، وفي أسرة غير مترابطة، وفي كنف جدته، ثم يصبح هذا الطفل رئيسا لأكبر وأقوى دولة في العالم! حقق أوباما ما كان مستحيلا أن يتحقق!
من العدل أن أقول: لولا النظام الأميركي الرائع لما تحقق أي شيء من ذلك، إنها ديمقراطية أميركا الجميلة مهما اختلفنا مع أصحابها!
والآن تحقق حلم «مارتن لوثركنج» فهل يتحقق حلمي؟ إني أحلم أن يحكم أميركا رئيسا عادلا، عادلا بكل معنى الكلمة، وديمقراطيّا، أيضا، بكل ما تحتمله هذه الكلمة من معان جميلة.
أحلم أن يحقق العدل للفلسطينيين، وأن يتخلى عن أقواله بأن القدس يجب أن تكون عاصمة موحدة للصهاينة.
أحلم بأن يعمل بكل قوة على قيام دولة فلسطينية مستقلة، بكل ما تحمله كلمة الاستقلال من معنى، وألا يكون مثل سابقه بوش يتحدث ويتحدث ولكن لا شيء أكثر من حديث لا قيمة له... القدس ليست عاصمة للصهاينة، والأقصى لن يكون في متناول الصهاينة إلى الأبد... ولن يستمر صمت المسلمين على جرائم اليهود إلى ما لا نهاية.
أحلم أن يخرج الأميركان من العراق ومن أفغانستان، ويكفيهم كل الدمار الذي أحدثوه في هذين البلدين، هذا الدَّمار الذي جعل سمعتهم تصل إلى الحضيض... لن يصلح هذين البلدين إلا أهلهما ولن يستطيع الغزاة أن يفعلوا أي شيء يتسم بالإصلاح في بلاد يحمل لهم أهلها كل الكراهية... أحلم أن يتحدث الأميركان عن الحريات العامة، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، ولكن بصدق ومن دون التطلع إلى تحقيق مصالح ذاتية لأميركا سوى سعيها إلى تحقيق رسالتها التي يتحدث عنها رؤساؤها، وهي ترسيخ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
أحلم بأن تنتهي تلك الثنائية البغيضة التي كرسها بوش حينما قال: إن من ليس معنا فهو ضدنا؟، هذه الدعوى التي جعلت أميركا ودولا أخرى تستغل هذا الكلام لإطلاق اتهامات هنا وهناك على من هم منها براء.
وبالمناسبة فإن الحلم الجميل الذي أتطلع إليه، كما يتطلع إليه كل فرد في بلادي، بل وكل الأحرار في العالم أن يأمر الرئيس المقبل (أوباما) بإطلاق سراح حميدان التركي المواطن الصالح الذي سجن ظلما وعدوانا بقوانين سيئة الصيت وسيئة التطبيق.
يحق لي أن أحلم كما حلم «مارتن» ولعل أحلامي ترى النور قبل أن أموت... ولكن الذي أعرفه أن أحلامي لن تتحقق ما لم يكن العرب جميعا والمسلمون مثلهم على قلب رجل واحد، لهم أهداف واضحة، وخطط مدروسة للوصول إلى تلك الأهداف.
إن أوباما وأي إنسان آخر، مهما يكن منصبه، لن يتعاطف مع القضايا العربية ما دام أصحابها لا يبذلون كل إمكاناتهم لتحقيقها.
أوباما رشحه الأميركان من أجل تحقيق مصالحهم وليس من أجل تحقيق المصالح العربية، وبدايته ليست مشجعة فقد جعل إرضاء الصهاينة همه الأول عندما عين مدير بيته الأبيض منهم ولست أدري ماذا سيفعل بعد ذلك، كل ذلك يجعل الوحدة العربية، والعمل المشترك هو الذي يحدد الكيفية التي سيتعامل بها أوباما مع القضايا العربية... ويجب ألا ننسى أن العالم لا يحترم الضعفاء
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 2258 - الإثنين 10 نوفمبر 2008م الموافق 11 ذي القعدة 1429هـ