العطل الفني الذي أصيبت به الإدارة الأميركية بعد إعلان نتائج انتخابات 4 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري سيدخل واشنطن في فترة انتظارية لا تستطيع خلالها اتخاذ قرارات حاسمة من دون استشارة الرئيس الفائز، كذلك لا تستطيع إهمال الملفات من دون مراجعة أو متابعة. وبين الاحتمالين تصبح إدارة جورج بوش في صورة غير واضحة الملامح تشبه في سماتها تلاوين الفترة الانتقالية. فالحال الأميركية الآن غامضة في توجهاتها الكبرى لكون مؤسسات الدولة تستعد لمرحلة التسلم والتسليم ما يفرض على القوتين (الخارجة من الحكم والداخلة إليه) اعتماد أسلوب الاحترام المتبادل والتعايش السلمي لمنع الفوضى من التمدد إلى الأجهزة في مختلف قطاعاتها الداخلية والخارجية. وبسبب مهلة تصريف الأعمال يرجح أن تشهد منطقة «الشرق الأوسط الكبير» حالات من الغموض في ملفاتها الساخنة والباردة نتيجة العطل الفني الذي أصاب مركز القرار الدولي في واشنطن. وحين تصاب الدولة الأولى في العالم بحال من الاضطراب النفسي الناجم عن مرحلة الانتقال تضطر القوى الإقليمية بدورها إلى مراجعة حساباتها في ضوء متغيرات قد تشهدها فترة التسلم والتسليم بين رئيس جمهوري اعتمد سياسة هجومية ورئيس ديمقراطي يتجه نحو الانكفاء إلى الداخل لمعالجة المشكلات المالية والاقتصادية.
احتمال تغليب الرئيس الأميركي المنتخب الملفات الداخلية على الخارجية أصبحت مرجحة لكون الولايات المتحدة تمر الآن في مطبات أرهقت الموازنة وأورثت الدولة مهمات اجتماعية تضغط على الإدارة للانتباه إلى تداعياتها قبل أن تتدحرج كرة الأزمات وتدفع السوق نحو عدم الاستقرار. والفترة الانتقالية لا تعني أن الرئيس بوش سيدخل في حال من الغيبوبة الدولية والداخلية وسيتوقف عن متابعة ملفات ارتبطت بإدارته خلال السنوات الثماني الماضية. فالانتقال من طور إلى آخر يتضمن الكثير من الخيارات التي لا تحتمل التأجيل. فهناك الأزمة المالية التي عصفت بالأسواق العالمية وهي تتطلب من الإدارة الحالية اتباع سياسة تساعد على احتواء التداعيات حتى لا يتوسع نطاق المشكلات ويجرف معه طبقات اجتماعية يعتمد عليها الاقتصاد الأميركي للمحافظة على نموه. وعدم إهمال الملف المالي يفرض على الرئيس الحالي مشاركة الرئيس المنتخب وإطلاعه على الخطوات التي يفكر في اتخاذها في القريب العاجل لتجنيب البلاد المزيد من الكوارث. فالقمة الاقتصادية التي دعا إليها الرئيس بوش زعماء 20 دولة في العالم للبحث في مخارج مشتركة للأزمة تؤشر إلى أن حال الغموض لن تمنع الولايات المتحدة من لعب دورها في إدارة الملفات. ولكن الإدارة لن تكون في موقع مريح كما كان حالها قبل إعلان فوز باراك أوباما. فالفوز الكاسح الذي حققه الحزب الديمقراطي على المستويين التنفيذي والتشريعي أعطى فرصة للطرف الفائز في الاطلاع والمشاركة وربما المساهمة في تحديد الخيارات المناسبة.
مشاركة الرئيس المنتخب في الاستشارات لا تقلل من صلاحيات الرئيس الحالي وربما تعطي دفعة معنوية وتشجع على اتخاذ مبادرات بغطاء شعبي يحتاجه بوش حتى يستكمل ما تبقى من أسابيع في حكمه.
رجل الدولة
مشكلة الرئيس المنتخب ليست في عزم الرئيس الحالي على إشراكه في حلحلة الملفات الداخلية. فهذا الجانب من الأزمات يلبي رغبة تريدها واشنطن للمساعدة على احتواء عناصر محلية لعبت دورها في التأثير على مزاج الناخب (دافع الضرائب). بوش بحاجة إلى أوباما للمساهمة معه في قراءة التفاعلات الداخلية للأزمة المالية وربما يطلب مشورته ومساعدته في اتخاذ الخطوات الضرورية للسيطرة على اضطراب الأسواق وقلق الطبقات الوسطى على ضماناتها وودائعها ومستقبلها.
المشكلة لا تكمن في العناصر الداخلية للأزمات الأميركية باعتبار أوباما طالب الرئيس الحالي في مؤتمره الصحافي الأول بعد انتخابه عدم الانتظار والتحرك بسرعة لإنقاذ الوضع من الانهيار الكبير. المشكلة تتركز على القضايا الخارجية والمجال الذي يمكن أن يتحرك أوباما في إطاره وخصوصا تلك الملفات الساخنة والباردة التي تمر في حالات من التقلب والغموض في دائرة «الشرق الأوسط الكبير». فهذه الملفات الشائكة تتطلب من بوش التنازل المعقول عن جوانب من صلاحياته وإعطاء الرئيس المنتخب ذاك الدور المحدود للاطلاع أو المشاركة في تحديد الخيارات المناسبة.
هناك لاشك الكثير من الخلافات الثنائية بين الطرفين في التعامل مع الملفات. وهذا ما يمنع بوش من إعطاء فرصة لأوباما للتدخل واقتراح تعديلات على السياسة الأميركية المعتمدة منذ سنوات في العراق وأفغانستان وباكستان وفلسطين ولبنان والخليج وإيران. إلا أن الممانعة في جانبها الدستوري لا تمنع بوش من مشاركة أوباما معنويا واطلاعه على تلك الملفات «السرية» التي لا يقرأ أوراقها سوى الرئيس. والأوراق السرية التي لا تعرفها سوى قلة مختارة من الأجهزة والمؤسسات الثابتة ربما تشكل فرصة لبوش لإقناع أوباما بأن ما يسمعه في الشارع من سباب وشتائم لا يتوافق بالضرورة مع المعلومات والاتصالات واللقاءات التي تحصل من خلف الستار وبعيدا عن عدسات التصوير. فهذا الجانب السري وغير المعلن عنه في السياسة الدولية تصنعه أجهزة غير مرئية تتحرك تحت الأرض وتنسج علاقات خاصة وتتبادل معلومات وتنسق أحيانا في حقول معينة تتعارض في كثير من الحالات مع تلك التصريحات الصحافية والمواقف المعلن عنها.
السماح للرئيس المنتخب بالاطلاع على بعض تلك الأوراق السرية ربما يخفف الكثير من لهجته المخالفة لكون تلك «التقارير» تمتلك معلومات غير متداولة تكشف في جانبها الغامض زوايا سياسية تعتمدها أميركا في علاقاتها الدولية. وهذا الأمر يمكن إدراكه حين يبدأ أوباما في تعديل مواقفه وتصحيحها وتشذيبها وتهذيبها... إذ ما يقال في الشارع لكسب أصوات المقترعين يختلف عن المعلومات التي تسربها الأجهزة لتصنيع سياسة الدولة.
أوباما الآن بدأ ينتقل في مرحلة التسلم والتسليم من موقع المعارض والبعيد نسبيا عن المؤسسات إلى رجل دولة يحتاج إلى تركيز وانتباه حتى يلم بكل التضاريس والتضاعيف والمرئي وغير المرئي من الصورة. وبهذا المعنى تصاب الإدارات الأميركية بعطب فني في فترة تصريف الأعمال لأن الرئيس الذاهب تعلم اللعبة واكتشف خيوطها بينما الرئيس المنتخب دخل حديثا مرحلة التعلم والاكتشاف وهي لاشك ستكون مكلفة ومحبطة نظرا إلى ما تحتويه من معلومات مدهشة.
أكثر من دهشة سيصاب بها أوباما حين يبدأ بالاطلاع على تلك الملفات في «الغرف السرية» ويأخذ بالتعرف على «الأصدقاء» و«الأعداء» و«من يتعاون» ومن «لا يتعاون» وهو ما سيؤدي به لاحقا إلى تأخير خطوات وتقديم خطوات وتعديل مواقف وإعادة قراءة سياسات.
بسبب هذه الطفرة من المعلومات تتولد في فترة تصريف الأعمال حالات من الغموض والتشويش في التعامل مع الملفات الساخنة والباردة وتحديدا في «الشرق الأوسط الكبير». فالعطل الفني حين يصيب دولة كبرى نتيجة غرقها في التصليحات الإدارية والتصحيحات السياسية بسبب اضطرارها لمشاركة «الخصم» في المشورة والقرار يؤدي آليا إلى نوع من الجمود في القضايا الإقليمية وخصوصا تلك التي تعتمد كثيرا على دور أميركا ونشاطها الدبلوماسي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2258 - الإثنين 10 نوفمبر 2008م الموافق 11 ذي القعدة 1429هـ