قد لا يكون الاستقرار كل شيء، ولكن يمكن اعتبار كل شيء آخر غير كافٍ من دونه. لقد تعلمت تركيا هذا الدرس وجلبت الاستقرار والنمو. وقد أنتجت هذه التطورات الإيجابية، المقترنة مع الخصخصة الواسعة ومناخ الاستثمار الدولي الذي شجع على المجازفة، طفرة غير مسبوقة في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى تركيا. هذه أنباء طيبة، ولكن ينبغي وضعها في المنظور الصحيح.
لم تكن تركيا منفردة في ذلك: فلقد ارتفع تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل ملحوظ على صعيد عالمي على مدى الثلاث سنوات الأخيرة. وتأتي الأخبار الأكثر واقعية عندما يبحث الشخص في تفاصيل ما يجعل اقتصاد ما تنافسيا، وهو قياس مهم في أعين المستثمرين الأجانب. ومن الواضح أنه، وفي حين توفر إمكانات كبيرة لدى تركيا، فإن الأعمال التجارية والعمال فيها مثقلون بأعباء نظام قانوني دون المعايير وبيروقراطية ضخمة تنتج الكثير من الروتين الحكومي ووجود نظام ضريبي لا يشجع على العمل في الاقتصاد الرسمي. تؤثر هذه العوامل السلبية على حصول تركيا على ترتيب منخفض نسبيا في الدراسات التي تقيس التنافسية. فعلى سبيل المثال، تحتل تركيا المرتبة الثالثة والثمانين (أقل بقليل من مولدافيا وكينيا) في مؤشر الحرية الاقتصادية للعام 2007.
سلكت استونيا هذا الطريق، فلننظر إلى إنجازاتها. منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تخلصت استونيا من الروبل الروسي وبدأت في إصدار عملتها الخاصة بها (كرون) في العام 1992 عن طريق إنشاء مجلس للعملة: اصدار الكرون المدعوم دعما كاملا باحتياطيات العملة الأجنبية والممكن تحويله من دون قيود بأسعار ثابتة تبلغ 15.65 لكل يورو. كما سنت استونيا أيضا مجموعة واسعة من إصلاحات السوق الحرة، بما في ذلك إدخال نظام ضريبي بسيط وثابت. ولا عجب في أن تتبوأ استونيا خلال السنوات الـ15 الأخيرة المرتبة الثانية عشرة من ضمن قائمة أكثر الاقتصادات حرية في العالم (أعلى مرتبة توصلت إليها أي دولة شيوعية سابقة)، وأن يرتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى عشرة أضعاف منذ العام 1992، ليصل إلى 12900 للفرد هذا العام. لدى تركيا، وبالنظر إلى شعبها وموقعها وتاريخها، إمكانات اقتصادية كبيرة ويمكنها أن تجري تحسينات هائلة في قدرتها التنافسية. وتكمن المشكلة في عدم تحقيق هذه الإمكان بسبب تاريخها المليء بالسياسات الاقتصادية المشكوك فيها وعملتها غير المستقرة. وكمثال على ذلك، ان إنتاجية القطاع العام في تركيا أقل من نصف إنتاجية القطاع العام في سنغافورة. وكذلك، وبحسب تقرير «بدء الأعمال للعام 2007» الصادر عن البنك الدولي، الذي يقيّم 175 دولة، تحتل سوق العمل في تركيا المرتبة 146 من حيث الصعوبات التي تواجهها الأعمال التجارية والشركات في توظيف العمال وتسريحهم، ومن حيث ارتفاع الضرائب المرهق على الأجور.
إن أفضل طريقة تتبعها تركيا من أجل تحديث وتحسين القدرة التنافسية لديها هي تنفيذ، ومن جانب واحد، مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية «المصنوعة في تركيا». لقد دعى الاقتصاديون الليبراليون، منذ آدم سميث، الدول أن تقوم، وبشكل منفرد، بتبني السوق الحر وسياسات التجارة الحرة لسبب بسيط هو أن تلك السياسات صحيحة من حيث المبدأ والممارسة. كما جادلوا ضد مبدأ المعاملة بالمثل، الذي يلزم الدولة على خفض القيود التجارية مع الدول الأخرى التي تحذو حذوها فقط. ومن ناحية عملية، إن الممارسة الأحادية لسيادة القانون وسياسات السوق الحرة شائعة وتعمل بشكل جيد. ولا يوجد مثال لذلك أفضل من سنغافورة.
نالت سنغافورة استقلالها في العام 1965، وفعليا، طردت سنغافورة من اتحاد مدته سنتين مع ماليزيا. وفي ذلك الوقت، كانت سنغافورة متخلفة جدا، وفقيرة، وكان لديها مصدر قوة واحد فقط هو موقعها الاستراتيجي. لقد كانت سنغافورة بقعة صغيرة على الخريطة في جزء خطير من العالم، كما كان سكانها يتكونون من مجموعة متنوعة من المهاجرين مع تاريخ من التوترات الطائفية. إلا أنه كان لديها قائد قوي ذو رؤية واضحة لكيفية تحديث بلده.
استبعد (لي كوان يو) صراحة الاستجداء وقبول المساعدات الأجنبية من أي نوع. وتضمن مبدأه الرئيسي لتنظيم الحكومة السير بصرامة دون أي هدر أو فساد. ولتنفيذ هذا المبدأ، عين (لي كوان يو) موظفين من الدرجة الأولى فقط في الخدمة المدنية، كما دفع لهم أجورا مرتفعة من الدرجة الأولى. المبدأ الآخر الذي احتضنه (لي يو) هو منافسة دول العالم الأول، والذي تحقق من خلال الضرائب القليلة، والحد الأدنى من تقييد الأعمال والتجارة الحرة. وأخيرا، أصر على الأمن الشخصي والنظام العام وحماية الممتلكات الخاصة. وليس بالمستغرب أن تكون سنغافورة اليوم واحدة من أغنى الدول وأكثرها تنافسية في العالم. على رغم أن الاستقرار شرط ضروري للرخاء والازدهار، فإنه لا يتحقق إلا مقابل ثمن في دولة لها تاريخ طويل من عدم الاستقرار النقدي. وهذا هو السبب في كون معدل الفائدة في تركيا من أعلى المعدلات في العالم، فهي مرتفعة لدرجة قاسية وغير مستدامة. لن يؤدي مجلس العملة التقليدي، على غرار مجلس عملة استونيا، إلى تثبيت سعر صرف الليرة (مثلا، إلى اليورو أو الدولار) على شكل معقول فحسب، بل سيؤدي أيضا إلى تعديل مشكلة معدل الفائدة الحقيقية في تركيا. يتحتم على تركيا أن تجري الإصلاحات اللازمة لتحقيق مكانة كبيرة. سيكون التحدي الذي تواجهه هو تعيين أشخاص من أجود النوعيات في المناصب الرئيسية وتحديد الطريق لهم بصرامة. لا ينبغي الاستخفاف بهذا التحدي. ولو كان التاريخ دليلا، ستتلاشى القوة الدافعة للإصلاح مع الزمن.
*أستاذ علم الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز، وزميل أقدم في معهد كيتو في واشنطن العاصمة، والمقال ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 1723 - الجمعة 25 مايو 2007م الموافق 08 جمادى الأولى 1428هـ