الانفجار الثاني الذي وقع في الشطر المسلم من بيروت (شارع فردان) بعد وقوع الأول في الشطر المسيحي من العاصمة اللبنانية (الأشرفية) يرسم الكثير من ملامح خطة التقويض الأهلي التي بدأت عشية بحث مجلس الأمن مشروع تشكيل «المحكمة ذات الطابع الدولي».
التفجيران المفتعلان ليسا بالضرورة يرتبطان مباشرة بالتنظيم المجهول الهوية الذي افتتح معركة الشمال (طرابلس ومخيم نهر البارد). فالبيان الذي بثته إحدى «الفضائيات» وتناقلته وكالات الأنباء باسم «فتح الإسلام» يشبه كثيرا تلك البيانات المجهولة المصدر التي كان تصدر على شبكات «الإنترنت» وتبثها فضائيات بشأن أعمال مرعبة ومجنونة وشاذة في العراق.
التشابه يوضح الكثير من الأمور منها أن هناك «أجهزة» تخطط لجرجرة البلاد نحو تصادم أمني/ أهلي تستفيد منه جهات ليست لبنانية أو فلسطينية. وخوفا من الالتباس اضطر الناطق الرسمي باسم «فتح الإسلام» إلى نفي علاقة التنظيم الهلامي بالتفجيرين أو بالبيان المشبوه الذي أذاعته الفضائية.
هذا التضارب في المعلومات والمصادر والجهات التي تدير الأزمة المفتعلة في الشمال كلها إشارات تدل على وجود مخطط لتفجير العلاقات الأهلية في البلاد وجرّ القوى السياسية إلى تصادمات تودي بالكيان وتشرذمه إلى مجموعة جزر أمنية لا تستطيع أية قوة داخلية السيطرة عليها.
عدم القدرة على السيطرة يفتح الباب لتدخلات جوارية وإقليمية ودولية ويعطّل على بقايا الدولة (الضعيفة والمشلولة) القيام بدورها الوطني في ضبط الانفلات الأمني ومراكز القوى المحلية التي تتوزع السلطات في المناطق. وهذا أيضا ما بدأ يظهر من خلال متابعة التصريحات السورية الرسمية أو التحركات العربية (أمين عام جامعة الدول العربية) أو الدولية (زيارة خافيير سولانا لبيروت). فالتصريحات والتحركات والاتصالات تعني أن الطرف الذي خطط للفتنة نجح نسبيا في افتعال أزمة معقدة في تداخلاتها وخطوطها المحلية وقنواتها الجوارية والإقليمية.
الأزمة التي انفجرت في الشمال ليست بسيطة فهي تفتح المجال لمجموعة تداعيات يمكن أن تطيح بالكثير من التوازنات السلبية التي استقرت في الساحة اللبنانية منذ التمديد للرئيس الحالي إميل لحود في العام 2004. فهناك الجانب الإنساني (مخيمات فلسطينية تتعرض للقصف) وهناك الجانب السياسي (جنود أبرياء يتعرضون للذبح بأسلوب متوحش لا معنى له سوى إثارة الأعصاب واستفزاز المشاعر) وهناك الجانب الإقليمي (فصائل فلسطينية موزعة الولاءات بين منظمة التحرير وحركة «فتح» ياسر عرفات وبين مجموعات توالي دمشق) وهناك الجانب الدولي (مجلس الأمن وعدم توافقه على صيغة نهائية لمشروع المحكمة) وهناك الجانب الإسرائيلي الذي يحاول التكيّف مع متغيرات طرأت على الساحتين الفلسطينية (حماس) واللبنانية (القرار 1701).
ما حصل في منطقة الشمال من مواجهات دموية في الأيام الثلاثة الماضية مسألة خطيرة يمكن أن تزعزع السلم الأهلي في البلاد وتخلط أوراق التحالفات المحلية وربما تودي إلى فتن لبنانية - لبنانية وفلسطينية - فلسطينية وفلسطينية - لبنانية. وهذا التنوع من الفتن من الصعب فصله عن التلون الطائفي/ المذهبي والمسلم/ المسيحي الذي يتشكل منه الكيان السياسي. وفي حال اختلط التنوع السياسي بالتلون الطائفي فإن احتمالات امتداد المواجهات الدموية تصبح من الأمور الواردة التي يصعب السيطرة عليها.
اختيار منطقة الشمال دائرة للفتنة يشكّل بداية لمشروع كبير يتجاوز حدود تلك المحافظة. فالشمال هو الفاصل بين الحدود اللبنانية/ السورية وهو في الآن منطقة مختلطة دينيا (مسلم/ مسيحي) وطائفيا (سنية) وتوجد فيها أقليات مسلمة ومسيحية في طرابلس وعكار. وهذه الدائرة المكتظة بالتنوعات تشكّل منطقة خصبة للتفجير الأمني وذلك لمجموعة أسباب لابد من أخذها في الاعتبار. فهذه المحافظة المجاورة للحدود السورية في الشمال تعتبر اجتماعيا من أفقر المناطق؛ ما جعل أبناء القرى والأسر والعائلات عرضة للإهمال والتهميش ودفع الكثير منهم إلى الانتساب إلى المؤسسات العسكرية وسيلة للارتزاق والمعاش. فالجيش اللبناني يعتمد كثيرا على أهالي عكار وغالبية قاعدته تتشكل من روافد تلك القرى المارونية والسنية.
الجيش إذا الذي يقاتل الآن في طرابلس ونهر البارد تتألف معظم قواعده من تلك المنطقة المظلومة اجتماعيا والمسحوقة سياسيا. يضاف إلى هذا العامل الجغرافي/ الديموغرافي وجود مخيّمات فلسطينية تعاني الحرمان كما هي حال المنطقة كلها. فهذه المخيّمات تعرضت خلال الحروب الأهلية/ الإقليمية التي عصفت بلبنان منذ العام 1975 إلى العام 1990 لمواجهات متعددة ومتقلبة آخرها كانت تلك المعركة التدميرية التي حصلت في العام 1983 بين قوات منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات المتحالف مع فصائل لبنانية وطنية ويسارية وبين القوات السورية المتحالفة مع فصائل فلسطينية خارجة على منظمة التحرير.
معركة طرابلس
المعركة السورية - الفلسطينية التي حصلت في طرابلس ومخيّمات الشمال في العام 1983 تشابهت كثيرا مع حال الحصار الذي تعرّضت له بيروت إبان الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982. فالحصار الإسرائيلي للعاصمة أدى إلى إخراج القوات الفلسطينية بحرا من بيروت كذلك أدى الحصار السوري لطرابلس ومخيّماتها إلى خروج عرفات وقوات منظمة التحرير بحرا من عاصمة الشمال.
بعد معركة طرابلس السورية - الفلسطينية طرأت على منطقة الشمال متغيّرات بنيوية في تركيبة المخيّمات السياسية، إذ أدّت إلى هرب أو مغادرة كل المنظمات والفصائل المؤيدة لعرفات من طرابلس. وبما أن قوات منظمة التحرير تشكّل غالبية سياسية فإن المخيّمات شهدت متغيّرات في مراكز القوى الفلسطينية فلم يعد لعرفات القدرة على تحريك الشارع بسبب انهيار المجموعات المؤيدة له. وبطبيعة الحال أدّى تفريغ المخيّمات من أنصار عرفات إلى تشكيل مواقع سياسية مرتبطة بمراكز إقليمية وهيئات لا تعرف الجهات التي تموّلها وتدرّبها.
منذ العام 1983 استقرّت نسبيا المخيّمات الفلسطينية في الشمال (نهر البارد والبداوي) وتهمّشت سياسيا وانعزلت اجتماعيا وفقدت مع الأيام مكانتها وموقعها ودورها السابق وتحوّلت إلى مادة خصبة لأنشطة هيئات ومنظمات معادية لعرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية. وربما يكون هذا الوضع الاستثنائي والخاص هو الدافع الذي شجّع «الطابور الخامس» على افتعال فتنة أمنية تظهر أمام الرأي العام وشاشات التلفزة والفضائيات أن هناك مواجهة تحصل بين الجيش اللبناني والمخيّمات ليستفيد منها إعلاميا ويقوم بتوظيفها في سياق إشعال معركة بين اللبنانيين والفلسطينيين من جهة والسنة والسنة من جهة أخرى.
اختيار منطقة الشمال نقطة انطلاق للفتنة العامة ليس عفويا. فالجهة التي خطّطت وقرّرت تفجير المعركة من هناك توفقت سياسيا في استدراج البلد إلى نوع من عدم الاستقرار يرجّح في حال استمر أن يؤدي إلى خلط أوراق التحالفات. فالمخيّم (نهر البارد) لا تسيطر عليه المنظمات الفلسطينية الكبرى أو تلك الفصائل التي تدين بالولاء لياسر عرفات وهذا بحد ذاته يشكّل مادة خاما لتجيير الفتنة باتجاه فرز الشارع السني وتشطيره سياسيا إلى مراكز قوى متخالفة ومتناحرة. كذلك فإن تفجير الوضع الأمني بهذا الأسلوب المتوحش (نحر الجنود بالسكاكين) يضع قيادة الجيش في موضع محرج؛ لأنها من جهة لا تستطيع السكوت عن الجريمة ومن جهة أخرى لا تستطيع الدخول في مواجهة مع مخيّمات يمكن أن تؤدي إلى تثوير الفلسطينيين الموجودين في طرابلس وصيدا وصور وبيروت.
هذا التوصيف لصورة الوضع الاجتماعي - السياسي في الشمال يفسّر إلى حدٍّ ما تلك الردود التي صدرت عن جهات محسوبة على «8 آذار». فهذه الجهات المتحالفة مع سورية رسميا لا تستطيع أن تقف مع «المخيّمات» ضد الجيش اللبناني لأسباب طائفية ومذهبية. فالرئيس إميل لحود كان قائدا للجيش كذلك الجنرال ميشال عون والتيار المسيحي اللحودي - العوني المتفاهم مع حزب الله رسميا لا يستطيع السكوت أو تغطية تلك المواجهات الدموية بأسلوب محايد؛ لأن قواعده المارونية لا تقبل بذبح الجنود غدرا. وعلى الخط نفسه نرى أن هناك حالاتٍ من الإرباك والإحراج أصابت رئيس الحكومة فؤاد السنيورة الذي وجد نفسه بين نارين الأولى فلسطينية تطالب بوقف القصف على المخيّمات والثانية سنية التي ترفض الانجرار إلى فتنة سياسية لبنانية - فلسطينية. والأمر الذي يعاني منه السنيورة الآن يمكن سحبه أيضا على حلفاء الحكومة من سعد الحريري إلى وليد جنبلاط.
هذا التعقيد السياسي (الطائفي/ المذهبي) يشير بوضوح إلى أن الجهة التي خطّطت وقرّرت إطلاق الفتنة من الشمال درست كل التفصيلات وقرأت جيّدا ردود الفعل وتلك التداعيات الداخلية على الوضعين اللبناني والفلسطيني. فالإحراج الذي أُصيب به التيار المسيحي في «8 آذار» يشبه كثيرا الإحراج الذي أُصيب به التيار المسلم في «14 آذار». كذلك أُصيبت الفصائل الفلسطينية الموالية لعرفات ومنظمة التحرير الموجودة بكثافة في كلّ المخيّمات باستثناء تلك في منطقة الشمال. فهذه المنظمات أعلنت دعمها للجيش والحكومة واستنكرت حادث الاعتداء المدبّر (ذبح الجنود) ولكنها أيضا غير قادرة على السكوت وعدم الاعتراض على القصف حتى لا يقال إنها تخلّت عن واجباتها في الدفاع عن المخيّمات.
المسألة إذا ليست سهلة والطرف الذي اختار مخيّمات الشمال واسطة لإشعال الفتنة يعلم تماما المعادلات ويدرك سلفا الانعكاسات وما تجرّه من تداعياتٍ داخليةٍ ليست بعيدة عن نشر الفتنة المذهبية والطائفية على أنواعها وأشكالها اللبنانية والفلسطينية. ومثل هذا التعقيد يتطلّب سياسة عاقلة وإجراءاتٍ قاسية تتجاوز الحلّ الأمني (العسكري). فالحلّ يجب أن يعتمد على السياسة الواعية بدءا بعزل تلك المجموعة المشبوهة التي تنفذ قراراتٍ خطيرة تصبّ لمصلحة أصحاب مشروع الفتنة والتقويض... وانتهاء بإعادة فصائل منظمة التحرير التي غادرت مخيّمات الشمال مُكرهة منذ العام 1983 إلى تلك المنطقة. فالحلّ اللبناني لمشكلة المخيّمات يجب أن يعتمد على القوة الفلسطينية التي هي الجهة الوحيدة القادرة والعارفة بتشعبات الأزمة. ويمكن أن تتوحّد الجهود بين الجيش وقوّات منظمة التحرير لضبط الأمن والانفلات في المخيّمات وتجنيب القوتين مجابهة دمويّة من الصعب احتواء تداعياتها أو السيطرة عليها.
في الأيام الثلاثة الماضية صدرت الكثير من التصريحات العشوائية التي شتمت رئيس الجمهورية وقائد الجيش ورئيس الحكومة في وقت واحد، وأطلقت خطابات تحريضية تصبّ في النهاية في أتون الفتنة التي يُراد منها خلط أوراق التحالفات تمهيدا لتغييب الجهة الفاعلة التي خطّطت وقرّرت التلاعب بالتناقضات اللبنانية والتعارضات الفلسطينية لحسابات دوليّة وإقليميّة تستكمل ما تبقى من أهداف لم تتحقق بعد من العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في الصيف الماضي.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1720 - الثلثاء 22 مايو 2007م الموافق 05 جمادى الأولى 1428هـ