يتفق كل العقلاء في الأرض بغض النظر عن أديانهم أو عن انتماءاتهم الطائفية أو الفكرية على إدانة الإرهاب بكل صوره وأشكاله واعتباره عملا مقيتا ينافي الكرامة الإنسانية فضلا عن مخالفته الأديان السماوية والشرائع الأرضية.
ولا يختلف هؤلاء على تعريف الإرهاب، وإن كانوا يختلفون على طريقة معالجته والتعامل مع الأفراد الذين يمارسونه، وهذا الاختلاف حق بشري فالناس قد يختلفون على الحكم على أشياء أقل من الإرهاب فكيف بمن يمارس الاعتداء على الآخرين؟
ولكن طائفة من الناس تريد أن تقلب حقائق الأمور وبدهياتها إلى مصالح خاصة أو فهم عقيم فتجعل - مثلا - احتلال بلاد الآخرين وقتل الآلاف منهم عملا غير إرهابي وإنما هو هدايا ثمينة تقدم إلى أهالي تلك البلاد المنكوبة. هذا الفهم ليس حكرا على المحتلين وإنما يتعدى ذلك إلى بعض الأتباع من هنا أو هناك.
ومع أن الإرهاب الذي حدث في بلادنا أنكره كل قادر على الإنكار بحسب الوسائل التي تتاح له إلا أن بعض الكتّاب وجدوا في ذلك العمل المشين فرصة للتشفي من آخرين باعتبار أن أولئك - بحسب زعمهم - من روّج للإرهاب أو سكت عنه.
ما كنت أحب أن يكون بيننا من يستغل جروحنا لتصفية حسابات قديمة أو جديدة أو محاولة النيل من ثوابت ديننا بحسن نية أو بسوئها لأن الموقف يستدعي الوحدة والتكامل فالمصيبة - لو وقعت - فستصيب الجميع مهما كانت انتماءاتهم الفكرية.
قرأت مجموعة من المقالات التي تصب في هذا الاتجاه، بعضها استطعت أن أفهمه والبعض الآخر استعصى على فهمي ولم أستطع أن أحدد مراد كاتبه بدقة في المجمل من مقاله فاكتفيت بإشارات قليلة مما كتبه، ولعلي هنا أنصح الكل أن يكونوا دقيقين وواضحين كي يعرف قراؤهم ماذا يريدون. أول هؤلاء الزميل عبدالله المطيري الذي كتب مقالين عن الإرهاب في صحيفة «الوطن» السعودية أحدهما في 15/4/1428هـ والآخر في 29/4/1428هـ، وأعترف بأني فشلت في فهمهما بالكامل على رغم أني أستاذ جامعي منذ أكثر من ربع قرن وأناقش الرسائل العلمية مقوِّما لها وناقدا لكل كلماتها.
على أية حال الزميل عبدالله رأى أن النظام التعليمي السعودي نظام تكفيري وأنه يعلّم الطلاب تكفير الآخرين ويخلو من أية لمسة تسامحية. كما يرى أيضا أن حملات الوعظ تقليدية مفلسة وأنها جزء من مشكلة الإرهاب. هذه المقولة «المفلسة» ليست جديدة فقد قالها آخرون، وطرحها بهذه الصورة لا يحل المشكلة - إن كانت هناك مشكلة أصلا - وكان الأجدى لمن يطرح هذه المقولة أن يخرج من حيز التعميم إلى التخصيص فيحدد بدقة الإشكالات التي يراها «تكفيرية» ولماذا حكم عليها بذلك، وهل يتفق معه علماء بلادنا أم يخالفونه الرأي!
ويستمر المطيري في توزيع الاتهامات هنا وهناك، فحلقات القرآن والمخيمات الصيفية تتعرض للحملات التكفيرية، وهذا الاتهام ليس بجديد أيضا فهو مسبوق إليه، ولعله لا يعرف أن هذه الحلقات وتلك المخيمات تشرف عليها الدولة بالكامل وأن قيادتنا السعودية تفخر بها كثيرا ويكفي ما قاله سمو الأمير سلمان عن حلقات تحفيظ القرآن... ومع هذا كله فلو قال شيئا مفيدا عنها وحدد بدقة مكمن المشكلة لقبلنا ذلك منه ولوضع لبنة حقيقية في طريق الإصلاح، ولكنه - للأسف - لم يفعل شيئا من ذلك.
الشيء الأسوأ، أن المطيري قال ما نصه: «نربي أبناءنا على الفخر بكثير من الأفعال التي تتضمن العنف والاعتداء على الآخرين ثم نصنف من يفعلها اليوم بالإرهاب». الشيء الوحيد الذي فهمته من هذه الجملة أنه يريد القول: إن الفتوحات الإسلامية لا تختلف مطلقا عن الاحتلال الأميركي للعراق أو الصهيوني لفلسطين. ورجح قوله ذلك عندما قال: «إن هناك من يستنكر عملا إرهابيا في السعودية ويبارك مثله في بلدٍ آخرَ بحجة الوضع السياسي». ليته قال: أين هذا البلد الآخر؟ ولكني أفهم من قوله أنه يشير إلى المقاومة المشروعة في العراق أو فلسطين.
وفي هذا الخضم كتب محمد المحمود مقالا في صحيفة «الرياض» السعودية يوم 30/4/1428هـ تحت عنوان «المتطرفون وصناعة خطاب الجهل: الموقف من الليبرالية نموذجا». وقد حمل على هؤلاء «المتطرفين» الذين لا يعرفون معنى الليبرالية ولذلك فهم يهاجمونها، وقال: «إن التكفيريين يرون أنهم الممثلون الشرعيون الوحيدون للدين وأنهم يريدون من العلماء والمثقفين أن يركعوا لهم طالبين المغفرة حتى يتم تعميدهم من جديد كمؤمنين»!
كنت أتمنى من المحمود أن يشرح لهؤلاء المتطرفين معنى الليبرالية حتى ينقذهم من سوء الفهم وسوء الظن ولكنه للأسف لم يفعل ولست أدري لماذا ترك البيان في وقت وجوب إظهاره؟ مرة أخرى، ليته أفصح عن مواصفات التكفيريين الذين تنطبق عليهم تلك الصفات «النصرانية» التي أوردها، وليته ذكر واحدا أو أكثرَ؛ كي يقنع قراءه بفكرته!
الحديث عن الإرهاب وأن هناك فئة «تكفيرية» أو «صحوية» تحاول هذا الفعل كَثُرَ، ولكن - مرة أخرى - بصورة عائمة لا تخدم أصحاب هذه الفكرة ولا تنبئ عن وعي دقيق بالتعامل مع هذه الظاهرة.
لا أعرف أحدا برر فعلا إرهابيا، فالذي قام بعمل إجرامي من حق الدولة أن تحيله إلى القضاء، وللقضاء أن يقول كلمته في ذلك الفعل!
ولكن الذي أعرفه أن الاختلاف يحصل في محاولة فهم الدافع إلى ارتكاب تلك الجرائم وكذلك طريقة التعامل مع الذين لم يرتكبوا جريمة أصلا وإنما يحملون أفكارا متطرفة.
هذا النوع من الاختلاف ليس محصورا في دائرة «التكفيريين» كما يحلو للبعض أن يسميهم، ولا في دائرة «الصحويين» كما يقول البعض الآخر، بل تعدى هؤلاء وأولئك إلى من قد يوصفون بـ «الليبراليين».
وبالمناسبة، إن الحديث عن «الصحويين» وإرهابهم وخطرهم كان من اختصاص محمد آل الشيخ في مقاله في صحيفة «الجزيرة» السعودية يوم 28/4/1428هـ تحت عنوان: «شيء من خطاب الإرهاب الإعلامي» والذي قال فيه: «إن الإرهاب كله خرج من تحت عباءة (الإخوان المسلمين)»، ولعل الأخ لا يعرف أن في البحرين وقطر والكويت والأردن «إخوانا مسلمين» ولم نسمع أن هؤلاء كانوا «إرهابيين» وعلاقتهم مع حكوماتهم ممتازة، فلماذا يكون هناك تعميم غير مدعوم بأية دراسة علمية؟
من الطريف أن محمد يؤكد أن «كلّ إرهابي صحويّ». كنت أتمنى أنه أعطانا مواصفات «الصحوي» لنتمكن من التعرف إليه؛ لأن المصطلحات العائمة يمكن أن تُلصق بكل أحد ويدعيها كل أحد، ولكني - مع أني لا أعرف معنى «صحوي» - أتساءل: هل كان جيهان صحويا؟ وهل لدى محمد إحصاء دقيق لما ذهب إليه من أن كل الذين مارسوا الإرهاب كانوا «صحويين»؟
مرة أخرى، إطلاق التهم جزافا لا يخدم الفكرة بل يضعفها، ولا يخدم قضية محاربة الإرهاب بل يضعفها أيضا.
وفي المقال نفسه، يتحدث محمد عن فئة تحاول تبرير الإرهاب، وأن هذه الفئة هي كمن يمارس الإرهاب... ليته حدثنا عن هذه الفئة أو عن أفرادها ولكنه لم يفعل واكتفى بالتعميم الذي لا يفيد أحدا.
لقد قلنا: إن آراء الناس جميعا تختلف في محاولة فهم دوافع الإرهاب، ومن حق الناس أن يختلفوا ويتحاوروا ليصلوا إلى فهم مشترك يكون الأقرب للصواب. من الذين تحدثوا عن دوافع الإرهاب «الصحوي» تركي الحمد في مقال له في «الشرق الأوسط» يوم 20 مايو/ أيار الجاري تحت عنوان «لكي لا (لكيلا) تتآكل الطبقة الوسطى»، إذ قال: «فالتحول من حالة الازدهار إلى حالة الفاقة أو ما هو قريب منها، وانحدار الأفراد من مرتبة اجتماعية معينة إلى مرتبة أدنى ينشر الشعور بالغبن والحقد والاستغفال والتوتر وكلها مشاعر تتحول إلى مزيج قنبلة اجتماعية موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة عندما تنصهر في بوتقة واحدة خاصة عندما تجد تعبيرا لها في هذه الايديولوجيا أو تلك من ايديولوجيا التطرف اليميني منها أو اليساري على السواء».
الحمد قال: إن الفقر قد يسبب الإرهاب والتطرف، فهل نقول عنه إنه يبرر الإرهاب؟ هل نصفه بأنه «صحوي» ونزيد أن كل صحوي إرهابي محتمل؟
الحمد لم يكن وحده من قال هذا الكلام أو سواه في محاولة فهم أسباب ظاهرة الإرهاب، فلماذا يكون التحامل على فئة معينة إذا حاولت أن تجتهد هي الأخرى في فهم هذه الظاهرة؟
الشيء الذي أود قوله بوضوح: إن عقلاء بلادنا جميعا أنكروا الإرهاب، وإن التجني بتلك الطريقة لا يخدم أحدا بل أجزم أنه يسيء إلى بلادنا، كما أن تَكرار الحديث عن التعليم ومدارس تحفيظ القرآن والمخيمات الصيفية بتلك الطريقة الفجّة لن يقنع أحدا. على من يتحدث أن يضع النقاط على الحروف ويسمي الأشياء بأسمائها، أما الحديث بالمطلق فكلٌ يجيد، وكلٌ قادر على اتهام الآخرين بتلك الطريقة.
الإرهاب آفة يجب أن يتعاون الجميع على محاربتها، أما تصفية الحسابات فدعوها إلى موضوع آخر إن كان ولابد!
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 1719 - الإثنين 21 مايو 2007م الموافق 04 جمادى الأولى 1428هـ