إذا كان جيبوليتيك إيران هو الذي يُحدد مسارات السياسة الخارجية لها؛ فإن الدبلوماسية الناعمة بقيت سمة مسيطرة على التعاطي المباشر وغير المباشر لتلك السياسة مع المحيط الدولي عموما والإقليمي خصوصا، وخصوصا لتسوية الوضعية الطارئة المتعلقة بالطاقة وعلاقتها بالرقعة الذهبية للمخزون النفطي الهائل ما بين الخليج وبحر قزوين، ومدى القدرة على الوصول إلى الأسواق الحرة وإلى غرب أوروبا وأعالي البحار.
ومنذ انقلاب ميزان القوى في المنطقة، والتحول الكبير الذي رافق انتهاء الحرب العراقية الإيرانية ومن ثم غزو الكويت وما تلاه من انكفاء العراق وبروز الجمهورية الإسلامية كثقل استراتيجي بديل بقيت العلاقات الإيرانية بمحيطها القريب منسوجة وفق محددات سياسية واقتصادية وأمنية دقيقة كانت عُرضة لمطبات معادلة إقليمية ذات تأثير دولي تتسم بالتعقيد وعدم الاستقرار، لكنها وعلى رغم ذلك بقيت مشدودة بمركز التحكّم الواقع تحت تأثير الجيرة التاريخية والتشاطئ الحتمي في منطقة الخليج ما بين دوله التي تباينت رؤاها للأمن وللعلاقات الخارجية بشكل واضح على رغم الآلية الأمنية والاستراتيجية التي صاغها مجلس التعاون لأعضائه، وفي ذلك يمكن تسمية كل من دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان كأهم نموذجين خليجيين استطاعا إقامة علاقات متوازنة مع إيران على رغم حساسية المنطقة الواقعة بين متطلبات الكيان الخليجي والإقليمي والدولي وبين متطلبات الدولة.
في الحال العُمانية فإنه وكما أن جيبوليتيك إيران قد لعب دورا مهما في تحديد مسارات سياستها الخارجية فإن سلطنة عُمان (وهي موضوع المقال) هي أيضا كانت محكومة بموقعها الجغرافي الذي صاغ منظومتها القيمية والحضارية كحاضنة لهبوب جنوب القارة العجوز، وبالتالي فهي من البلدان التي تُعرف من خلال جغرافيتها كما هو الحال بالنسبة إلى إيران، وهو تناغم مشترك ترك أثره على طبيعة العلاقة بين البلدين منذ التاريخ السحيق ومرورا بالصراع العماني الفارسي الذي وصلت أصداؤه حتى حدود العراق عندما قاد هلال بن الإمام أحمد بن سعيد أسطولا بحريا لمواجهة الحامية الفارسية في البصرة في العام 1775 وانتهاء بالنهضة العُمانية الكبيرة التي بدأت مع تولّي السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم مطلع السبعينات.
لقد وجد الإيرانيون والعُمانيون أنفسهم حذاء مضيق هرمز الذي يُعتبر فاه الخليج الوحيد الذي يمر منه أكثر من أربعين في المئة من نفط العالم يوميا، ومثلما أدرك الإيرانيون أنهم المصب الحضاري الذي يلتقي في العالم الآسيوي ببقية العالم في الشمال والغرب، فقد أدرك العُمانيون أيضا أنهم بوصلة الحركة النشطة ما بين أقصى الشرق موصولا بجنوب القارة العجوز وانتهاء بشرق القارة السمراء وغرب أوروبا، وهو ما جعل من الأهمية المتبادلة جسرا نوعيا لإقامة أفضل العلاقات السياسية والاقتصادية وحتى الأمنية. وعلى رغم أن سلطنة عُمان هي من أوائل الدول الخليجية التي وقّعت اتفاقا دفاعيا مع الولايات المتحدة الأميركية وذلك في 21 أبريل/ نيسان 1980 أي بعد انتصار الثورة الإسلامية بسنة ونيف وقبل اندلاع الحرب العراقية الإيرانية بخمسة أشهر إلاّ أنها حافظت على علاقات متوازنة مع الجمهورية الإسلامية في أدق الظروف وأكثرها حرجا، وخصوصا أثناء حرب الخليج الأولى (1980 - 1988) وما تلاها من حوادث، وكانت السلطنة التي نأت بنفسها عن التأثير السياسي المباشر في قضايا المنطقة قد أمّنت لنفسها الكثير من الخيارات السياسية والاقتصادية وحتى الأمنية، فهي مهيأة أكثر من أية دولة أخرى لعمل وساطات بين الدول المتنازعة، وهي قادرة على استثمار علاقاتها المتعددة لتنشيط نهضتها العمرانية والصناعية من الصين وحتى الهند وانتهاء بإيران. ومن خلال الإشارة إلى الزيارة التي قام الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى مسقط في الرابع عشر من الشهر الجاري يُمكن تثبيت طبيعة العلاقة القائمة ما بين طهران ومسقط، فالزيارة وعلى رغم أنها الثانية لرئيس إيراني منذ قيام الثورة الإسلامية في فبراير/ شباط 1979 فإنها اتسمت بالخصوصية التي اتسمت بها زيارة نجاد لدولة الإمارات العربية المتحدة، وخصوصا أن توقيتها كان حساسا للغاية على اعتبار أن الرئاسة الدورية لمجلس التعاون ستكون من نصيب عُمان بعد ستة أشهر، لكن ما ميّز زيارة أحمدي نجاد لعُمان هو أنها كانت مشبعة أكثر للجانب الاقتصادي الذي يحكم كثيرا طبيعة العلاقة القائمة بين البلدين، وعلى رغم أن نجاد قد بحث مع السلطان قابوس بن سعيد آخر مستجدات الوضع على الصعيدين الإقليمي والدولي وملف العراق ولبنان والوضع الأمني في منطقة الخليج والملف النووي الإيراني فإن نتائج الزيارة كانت اقتصادية بامتياز، وهو ما فسّره طبيعة الوفد المرافق للرئيس الإيراني والذي ضمّ كلا من وزير الخارجية منوشهر متقي والمستشار الأعلى لرئيس الجمهورية هاشمي ثمرة ووزير الأمن غلام محسني إيجي ووزير النفط هامنانة ووزير الطاقة برويز فتاح، فإيران تريد الدخول إلى الوسط التجاري لعُمان وإيجاد مسار اقتصادي ممتد مع أكثر من ثلاثمئة مليار دولار هي حجم الموجودات الإيرانية في جارتها الإمارات، وعشرة آلاف مؤسسة إيرانية تتراوح مجالات عملها بين القطاع المصرفي والعقارات والنفط مسجلة في غرفة تجارة وصناعة إمارة دبي، وهو ما سيُمكّن طهران من تحقيق فجوة أخرى في جدار العقوبات التي تريد الولايات المتحدة الأميركية فرضها عليها بعد صدور القرارين الأخيرين والمتعلقين بالملف النووي الإيراني.
كذلك فإن الملاحظ أن الزيارة قد ركّزت على المجالات البتروكيمياوية والاستثمارات المشتركة في قطاع الغاز والثروة السمكية والسياحة وصناعة المناجم وإنتاج الإثيلين دايكلورد وإنتاج الأمونياك وتأسيس الأحياء الصناعية، وهي من الصناعات التي تقدمت فيها إيران بشكل ملحوظ واستطاعت من خلالها النفاذ إلى بلدان الوسط الإفريقي وقرنه وأيضا في أميركا اللاتينية وفي جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.
وخلال الاجتماع الحادي عشر للجنة الإيرانية العُمانية المشتركة تقرر تنفيذ مشروع تصدير الغاز الطبيعي من إيران إلى عمان وتطوير وتدشين حقل هنكام - نجا المشترك للغاز في مضيق هرمز، وهو أحد أهم نتائج زيارة نجاد لعُمان إذ تقرّر أن تقوم إيران بتزويد عُمان بأكثر من مليار متر مكعب من الغاز في اليوم عبر مد أنبوب غاز من خلال منطقة الحقل المشترك والحقول الأخرى، وأيضا تمّ التوقيع على ثلاث مذكرات تفاهم في مجال إلغاء تأشيرات الدخول السياسية والإدارية، وتأسيس شركة مشتركة للتعاون النفطي بين البلدين. وإذا ما تمّ تطوير التعاون في محافظتي هرمزكان الإيرانية ومسندم العمانية فإن الكثير من إشكالات التعاون البحري ستزول، وخصوصا أنه لا يوجد خط ملاحي مشترك بين البلدين، لذلك فإن البضائع الإيرانية التي تصل من إيران إلى عُمان تأتي عن طريق الإمارات وهو ما أكّده وزير التجارة والصناعة العماني من أن فتح مكاتب تجارية في ميناء بندر عباس الإيراني ومينائي المسندم والخصب العمانيين سيُفعّل العلاقات التجارية بين البلدين أكثر وخصوصا أن تسعين في المئة من التبادل التجاري بين البلدين يتم عبر هذه المحافظة، وهي رغبة يُراد لها أن تكون مشابهة للخط الجوي المباشر الذي يربط ما بين مسقط وشيراز وجابهار. إن المراقب لطبيعة العلاقة ما بين إيران وسلطنة عُمان يلحظ أنها علاقة تتجه أكثر نحو المناحي الاقتصادية والتجارية التي باتت من أكثر الروافد التي تتحكّم في مسار السياسات للدول.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1718 - الأحد 20 مايو 2007م الموافق 03 جمادى الأولى 1428هـ