لو كانت تجارب التواصل مع الآخرين توفر أرقامها وإحصاءاتها الاستطلاعية الصادقة عن تأثير تواصلها في محيطها، لأغنتنا وأغنت ساحتنا عن الكثير من الجدل المثبوت حول جدوى التواصل مع الآخر، الذي يبرز على السطح مع أي احتقان، أو توتر، أو موقف عدائي، يتخذه هذا الطرف أو ذاك بسبب معلومات ملتبسة، أو تحاليل خاطئة، أو تصادم في المصالح المتحركة على الأرض.
الغريب في الأمر أن القطيعة أخذت موقعها كأصل عمد على تثبيته تقادم الأيام والدهور، وأكدته عقول محترفة في التقاط سموم التاريخ، والانتقاء الهمجي والمتعمد لتراثه الثري بإكرام الإنسان وحبه، ولذلك لا تُسأل هذه القطيعة ومن وراءها جيشها المتخندق عمّا فعلت؟ وإلى أي منحى خطير أوصلت مجتمعاتها؟
بينما تتجه الأسئلة كرشق المطر محاكمة ومحاسبة وحاكمة وقاضية ومنفذة على كل جهة تتحرك باتجاه التواصل مع الآخر، وسؤالها المكرور: يا أهل التواصل والحوار أين وصلتم؟
لن أتوقف عند هذا السؤال كثيرا لأن الإجابة عليه صعبة وبخاصة في المناطق التي تنعدم فيها الاستطلاعات والإحصاءات والأرقام الميدانية، التي تقرب الصورة لأي موضوع اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي، أو غير ذلك من المواضيع التي تكون محلا للجدل والتجاذب.
لكن سألوذ إلى تجربة حية تحركها (المؤسسة الإسلامية في تورنتو) تقول صحيفة «الشرق الأوسط» 30أبريل/نيسان «من المثير أن الاستطلاع أظهر أن في البلدات التي يسكنها أقل من خمسة آلاف كندي 49 في المئة منهم ليس لديهم أي اتصال بأي مسلم بينما الكنديون في المدن الكبرى التي يسكنها أكثر من مليون شخص نسبة الاحتكاك بالمسلمين كان 64 في المئة، وأظهر الاستطلاع أن من بين الكنديين الذين لديهم اتصال كثير بمسلمين في كندا 70 في المئة منهم كانت لديه نظرة ايجابية عن الإسلام، بينما 49 في المئة من الذين ليس لديهم أي اتصال أو اتصال نادر بمسلمين لهم فكرة (سلبية) عن الإسلام».
من المهم أن ندرك أن المساحات التي يمكن أن يصلها صوتنا الديني، ورأينا السياسي، ووضعنا الاجتماعي وغيره هي مساحات واسعة وممتدة بعدد أنفاس البشر، وآذانهم قابلة لاستقبال ما نقول ونكتب ونتحدث، والكرة في ملعبنا وطوع إرادتنا، وأمامنا خياران:
الأول: أن نتحرك بثقة وقدرات إرادية جادة لا تعرف الملل والتباطؤ لنتواصل مع الآخرين معتمدين الصدق والشفافية والصراحة والمكاشفة.
الثاني: أن نقرر الانطواء والتقوقع، تاركين وراءنا مساحات بكاملها تبلور رؤيتها حولنا كيفما تشاء من دون أن نتدخل أو نساعد في تصحيح المسار وتوضيح الصورة، وعلى كل تقدير علينا أن نتيقن يقينا لا يدخله الشك أننا كمجتمعات سندفع فاتورة قرارنا، إن عاجلا أو آجلا، فسواء سعينا للتواصل مع الآخر، أم قررنا عكس ذلك، فستجري علينا سنة الكون التي لن تتبدل ولن تتحول «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّا يَرَهُ» (الزلزلة: 7 و8)
أرجو أن تسعفني الإشارة في مضمار ما سبق إلى ثلاثة أمور:
أولها: مقدار الجهد المرصود للتواصل مع الآخرين، أو رأس المال المدور من الطاقات والكفاءات والمشروعات والفرص المعدة للتواصل معهم، فالضجيج لا يغني شيئا ولا يبدل واقعا، وهذا يدفعني إلى القول أن أي جهد لا يؤدي نتيجته المرجوة من التواصل لا يمكن أن نحكم عليه بالفشل قبل أن نتأكد أنه جهد حقيقي وذو قيمة.
سأقرّب الصورة برجل يرصد ألف ريال فقط ليدخل في تجارة من التجارات، وحين يفشل ولا يوفق يتبنى رأيا يصفق له بعض المحيطين به والمتشائمين من اقتصاد السوق مفاده أن هذه البلاد غير صالحة للتجارة أو أن هذا النوع من التجارة خاسر وكاسر.
الحقيقة تقتضي أن نتساءل؟ هل تاجر الرجل فعلا؟ وهل رأس المال الذي رصده يعد شيئا مذكورا، حتى يتخذ حكما عاما على اقتصاد البلاد؟ أو على تلك التجارة المذكورة؟
أعتقد أننا نظلم أنفسنا إذا نظرنا إلى النتائج فقط من دون النظر إلى المقدمات التي صنعتها، ومنها مقدار الجهد الموظف من أجل الأهداف المهمة والضرورية لأي مجتمع من المجتمعات، ومن العدل أن ننظر إلى النتائج ضمن قاعدة قرآنية مهمة ألا وهي (وما أبريء نفسي) أمام أي فشل أو نتيجة غير مرضية.
وثانيهما: النظر بعين الاعتبار للموانع والجهود المضادة، فقلة من المسلمين في الغرب يوفرون بعض الكتب والمقالات والخطب الطيبة ويبذلون جهودا مشكورة من الزيارات والإطلالات للتواصل مع الآخر، لكن ومقابل هذا القليل من الجهد هناك مئات الكتب التي تشوه حقيقة الإسلام وآلاف الخطب والتصاريح السياسية والمواقف المنفعلة والعلاقات المتداخلة تعمل على نقل صورة أخرى مشوهة عن هذا الدين وهذا الإنسان المسلم، ولا شك أن هذا الجهد المضاد يعطل بعض المكاسب ويمنع جزءا من النتائج.
وثالثهما: الآثار التي تحدثها الظروف السياسية المتوترة، والأخبار السلبية التي تستغل بطريقة إعلامية سيئة من أجل تشويه واتهام أي تواصل وتلاقٍ بين النسيج الاجتماعي في البلد الواحد والساحة الواحدة، فكما امتدت الفرصة محملة بهدوء الظروف واستقرار الأوضاع أمكن للتواصل أن يثبّت قدمه ويعطي ثماره، ويجذّر واقعه، ويواجه العراقيل والزوابع التي تحاول النيل منه ومنعه عن تحقيق غاياته.
التواصل حين يصبح نهجا إنسانيا كريما وعملا أخلاقيا راقيا، وعبادة دينية محترمة، يتربى عليه النشء مع تعلمه للقراءة والكتابة في مناهجه المدرسية والتعليمية، فسنكون أمام فيصل يسيطر على الهواجس ويرسم طريق المشتركات، ويمنع أعداءنا من العمل في المسافات التي تفصل بيننا.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1718 - الأحد 20 مايو 2007م الموافق 03 جمادى الأولى 1428هـ