العدد 1718 - الأحد 20 مايو 2007م الموافق 03 جمادى الأولى 1428هـ

لبنان بين المحكمة والفوضى

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

انفجار الوضع الأمني في شمال لبنان بعد الهجوم الذي دبرته مجموعة مسلحة يقال إنها تابعة إلى تنظيم تم اختلاقه حديثا باسم «فتح الإسلام» يشير إلى محاولة لجرجرة البلاد إلى اقتتال داخلي يعطل على ما تبقى من مؤسسات الدولة لعب دورها السياسي في ضبط الاستقرار الأهلي.

الهجوم الذي تعرضت له مخافر عسكرية لبنانية على مداخل مخيم فلسطيني قرب مدينة طرابلس يرسل إشارات كثيرة ضد السلم الأهلي لأنه يتلطى باسم «فتح» وباسم «الإسلام» لإخفاء هوية الطرف الحقيقي الذي يقف وراء مثل هذه الأفعال. ومثل هكذا هجوم مفتعل لا يمكن فهم خلفياته السياسية من دون قراءة الفضاءات العامة التي أحاطت بهذا البلد منذ توقف العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في الصيف الماضي. فالعدوان التدميري الذي تعمد تقطيع أوصال البلد أسفر عن تداعيات داخلية وفوضى أمنية وسياسية وصلت أحيانا إلى شفير الاقتتال الأهلي. ولولا مسارعة القوى العاقلة والقادرة على التحرك لكانت الفتنة وقعت وانتشرت في لبنان في سياق نموذج تقويضي يشبه ذاك الذي أسسه الاحتلال الأميركي في العراق.

ما حصل أمس في شمال لبنان لا يمكن عزله عما حصل الصيف الماضي في جنوب لبنان. فالفضاءات العامة تشير إلى وجود نوع من التقاطعات الدولية والإقليمية التي تستهدف زعزعة استقرار المنطقة ودفعها نحو الاضطراب كما هو حال العراق. فالاقتتال الذي شهدته وتشهده شوارع غزة بين «فتح» و «حماس» يشبه ذاك الاقتتال الذي اندلع أمس في شوارع طرابلس في الشمال. والهدف منه تقويض السلم الأهلي وإثارة فوضى أمنية للتغطية على سياسات دولية إقليمية تتقاطع في حسابات خاصة. ويمكن رصد تلك الحسابات الخاصة من تلك الإشارات التي أرسلت قبل نحو الشهر حذرت لبنان من الفوضى والاضطراب والفتنة في حال أقر مجلس الأمن مشروع «المحكمة ذات الطابع الدولي». وتكررت تلك التنبيهات مرارا حين ربطت بين «المحكمة» و «السلم الأهلي». وبما أن الاتجاه العام يذهب نحو إقرار المحكمة مبدئيا في نهاية الشهر الجاري لاحظ المتابعون احتمال وجود علاقة بين مداولات أعضاء مجلس الأمن بشأن المحكمة وتلك الهجمات التي تعرضت لها أحياء طرابلس وعملية السطو على مصرف بقصد تمويل الفتنة المخطط لها.

التحذير من زعزعة الاستقرار في لبنان في حال أقر مجلس الأمن مشروع المحكمة جاء في سياقات مختلفة من تصريحات ومقالات وتوقعات آخرها كان ذاك التنبيه الذي أشار إليه بعض المسئولين الروس في لقاءات رسمية أو مقابلات صحافية. فالمعلومات التي حاول بعض المسئولين الروس نقلها ركزت على وجود مخاوف من احتمال جرجرة لبنان إلى فوضى أمنية تعطل مؤسسات الدولة وتمنعها لاحقا من متابعة موضوع المحكمة.

«المحكمة الدولية» قد تكون من العوامل المباشرة التي ساهمت في تفجير الوضع الأمني في شمال لبنان. التوقيت يثير الشبهات إلا أنه ليس السبب الوحيد الذي يقف وراء التصعيد في طرابلس ومخيم البارد. فهناك الكثير من الدوافع منها بدء البحث في موضوع انتخابات الرئاسة اللبنانية الذي وضع ملفه على نار ساخنة. وشكلت هذه المسألة نقطة مركزية في جولة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية ديفيد وولش إلى لبنان في الأسبوع الماضي. فالمسئول الأميركي حذر أيضا اللبنانيين من فوضى أمنية تهدف إلى زعزعة استقرار البلد ودفعه إلى فراغ دستوري يشبه ذاك الذي حصل في العام 1988 وتشكلت على أساسه استقطابات طائفية أدت إلى تأليف حكومتين مسيحية ومسلمة.

توقيت الانفجار

التحذيرات إذا متشابهة سواء تلك التي أطلقها المسئول الروسي بشأن تأليف المحكمة أو تلك التي أطلقها المسئول الأميركي بشأن الرئاسة والفراغ الدستوري وتأليف حكومتين. وصدور مثل هذه التنبيهات الدولية التي ترافقت مع توقعات وتحليلات وتصريحات محلية وإقليمية بشأن الفوضى وزعزعة الاستقرار والسلم الأهلي تؤكد على أن توقيت الانفجار الأمني في طرابلس والشمال ليس بريئا. فالهجوم على مخافر عسكرية لبنانية كان مخططا له ليأتي في سياق تقاطعات دولية وإقليمية تستهدف «عرقنة» هذا البلد الصغير لحسابات خاصة.

ما حصل أمس في الشمال اللبناني ليس حادثا بسيطا أو مواجهة عفوية يمكن السيطرة عليها بسهولة. فالاصطدام مرتب وتم تنظيمه لمصلحة الكثير من القوى المحلية والإقليمية وبالتالي لا يمكن عزله عن مأزق عام تمر به المنطقة. فهذا البلد هو جزء من مكونات سياسية وطائفية ومذهبية ممتدة إلى الخارج، ولذلك يحتمل أن تأخذ الفوضى الأمنية التي افتعلت في الشمال مداها الزمني وربما عمقها الجغرافي في حال لم تسارع القوى الفاعلة على الأرض إلى اتخاذ قرارات قاسية تقطع الطريق على الفتنة.

المشكلة في لبنان معقدة وهي في جوهرها السياسي تتضمن مجموعة عناصر قابلة للتفجير تدفع البلد نحو اهتزاز قد يعرض كيانه إلى انشطارات أمنية تبرر أو تغطي سلطات محلية ومناطقية. وما هو معلوم عن المشكلة أقل بكثير مما هو مجهول. والكلام عن «محكمة» و «انتخابات رئاسة» يشكل رأس جبل الجليد بينما قاعدة ذاك الجبل تتألف من خطوط وقنوات عابرة للحدود تمتد من العراق إلى غزة. والتفجير الذي اندلعت شرارته في الشمال اللبناني ليس بعيدا عن مناخات إقليمية وفضاءات دولية أرسلت منذ نحو شهر إشارات سلبية بشأن احتمال زعزعة استقرار البلد والسلم الأهلي بين طوائفه ومذاهبه.

المسألة إذا يجب إعادة قراءة جوانبها في إطار «الشرق الأوسط الجديد» وما قيل سابقا من تصريحات بشأن «المخاض» حين كانت حكومة إيهود أولمرت تدك لبنان بالغارات الجوية والقصف البري والبحري وتحطم قراه ومؤسساته وتقطع أوصاله وتنغص عيش أهله. فالعدوان توقف رسميا في 14 أغسطس/ آب، ولكنه عمليا استمر حين أنتج إفرازات داخلية وشكل تداعيات لاتزال تزعزع استقراره حتى الآن. وما حصل ويحصل منذ أكثر من تسعة أشهر في الساحات اللبنانية لا يمكن فصله أو عزله عن تلك السياسة الدولية/ الإقليمية التي بدأت تظهر ملامح صورتها على الأرض سواء في العراق أو في غزة أو لبنان. فالحلقات مترابطة سياسيا حتى لو ظهرت متباعدة جغرافيا.

القوى اللبنانية الآن أمام مسئوليات خطيرة تتطلب منها الانتباه وإعادة النظر في الكثير من الزوايا الحادة. وهذا ما ظهر جزئيا أمس حين بادر بعض المسئولين اللبنانيين والفلسطينيين إلى إطلاق تصريحات متشابهة تدعم الجيش ومؤسسات الدولة وتستنكر حادث الاعتداء على المواقع العسكرية. حتى رئيس الجمهورية إميل لحود المعروف عنه بالمزايدة والمداهنة والتغطية اضطر إلى الإدلاء بحديث صحافي أعلن فيه دعمه للجيش واستنكاره للهجوم عليه.

تصريح لحود قد يكون محاولة للتهرب من المسئولية ولكنه في النهاية يشير من دون انتباه إلى احتمال ظهور مواقف غير متوقعة تخلط الأوراق أو تعيد تشكيل جبهات سياسية جديدة ليست بالضرورة متطابقة مع انقسامات «8 و14 آذار». فالانفجار الأمني الذي انتشر فجأة في الشمال ليس عاديا وإنما يمكن ربطه بتحولات سياسية لا يستبعد أن تؤسس استقطابات جديدة على مستوى التحالفات المصلحية أو التجاذبات الأهلية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1718 - الأحد 20 مايو 2007م الموافق 03 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً