طالبت فعاليات اقتصادية ومالية القوى السياسية في لبنان بهدنة «مئة يوم» تبدأ في يونيو/ حزيران وتنتهي في سبتمبر/ أيلول المقبل لإنقاذ البلاد من الانهيار التجاري والفندقي وحماية موسم السياحة والاصطياف وتشجيع المستثمرين العرب والأجانب على معاودة نشاطهم الذي تراجع أو انقطع بعد العدوان الأميركي - الإسرائيلي في الصيف الماضي.
حتى فكرة «مئة يوم» هدنة رفضتها القوى السياسية أو توافقت عليها بشروط. وهذا النوع من الاصطفاف يشير إلى مدى الأزمة التي أوغلت في عمقها إلى درجة أن رجال المال والأعمال يطالبون بوقف مؤقت لإطلاق النار السياسي من دون جدوى. وحين تصل الأمور إلى هذا الحد من التضاد بين السياسي والاقتصادي تصبح التداعيات على أنواعها الأهلية والأمنية والفوضوية واردة من دون حواجز أو موانع. فالاقتصاد عادة بحاجة إلى أمن والاستقرار بحاجة إلى سياسة، ومثل هذه العادات الموضوعية والعاقلة أصبحت نادرة في بلاد الأرز. فهذا البلد الصغير والجميل أقلع منذ ثلاثة عقود عن اقتصاد يعتمد على سياسة وسياسة تعتمد على اقتصاد واستبدلها بالمال السياسي. فالسياسة في لبنان هي المورد الأساسي للمال. وهذا النوع من الاقتصاد من النادرأن نجد نموذجا مقاربا له سوى في البلدان التي تعيش لحظات «موات» تاريخية تعصف بها القبائل والصراعات العشائرية أو الاقتتال المذهبي أو الأقوامي ويتحكم بها أمراء الحروب والطوائف. فالحرب في النهاية اقتصاد. واقتصاد الحرب يحتاج دائما إلى سياسة تعطل الإنتاج وتقوض الدولة وتبعثر الناس إلى أحياء وكانتونات لا تتواصل أو تتعارف أو تتعايش إلا بلغة واحدة: العنف البارد أو الساخن.
لبنان كما يلاحظ من خلال متابعة المشهد الفلكلوري اليومي أنه بدأ يكرر تجربة «المال السياسي» التي مرّ بها خلال فترة حروبه الأهلية/ الإقليمية التي امتدّت من العام 1975 إلى 1990. قبل الاقتتال كان لبنان «واحة العرب». وفي هذه الواحة الصغيرة والجميلة وجدت مختلف الأطراف ملاذها المالي أو الثقافي أو السياحي أو العلمي. فالكل كان يختلف ثم يجتمع في هذه الواحة بحثا عن الضمان النفسي والاستقرار الذي يشجّع على الانفتاح والحوار.
بعد الاقتتال تصحّرت الواحة ونضبت مع الأسابيع والسنوات وتحوّل البلد إلى مكان للباحثين عن الفوضى السياسية. والفوضى السياسية تعني قتل السياسة وتحويل اللغة إلى لعنة تعتمد الشتم والتخوين ومنع العقل من التفكير والتحليل. فالسياسة في حال الفوضى تتحوّل إلى تبسيط يعطي فرصة للمزايدين في التحريض وجرجرة البلد إلى ساحة عنف تقتلع كل من يفكر ويحلل ويعقلن الخلافات.
خلال فترة الاقتتال غاب لبنان عن مسرح العقل وتحوّلت أرضه إلى ساحات لتصفية الحسابات فهرب المفكرون منه ولجأ إليه مسلحون يحترفون هواية القتل ويعتمدون على المال السياسي مصدرا للرزق. تحوّل المال السياسي إلى مصنع للإنتاج وتوقفت المصانع عن الإنتاج. ولهذا السبب يمكن فهم صمود لبنان الاقتصادي طوال فترة 15 عاما على رغم اليباس الذي ضربه من شماله الى جنوبه.
المال السياسي مسألة خطيرة في التعامل اليومي بين الناس. فهذا النوع من الاقتصاد يدمر في الشعب ثقافة العمل ويحط من قيمة الإنسان كقوة منتجة ومبدعة وخلاقة ويحوّله بسبب الحاجة إلى كتلة من النفاق يترزق المال من طريق الكذب والدس والافتراء؛ ليكسب من السياسة ما فاته من الجهد والاجتهاد.
مال من دون إنتاج
المال السياسي الذي اكتسح السوق اللبنانية في فترة الاقتتال ساهم في تعطيل ثقافة العمل وألغى الكثير من القيم التي تحرم الكسب من دون تعب. آنذاك تحوّلت صناديق الأحزاب والمنظمات والمليشيات المالية إلى مصدر للثراء والثروة وتوزيع المال على الأنصار للمحافظة على الموقع أو لتوسيع الولاء المزيّف. وهذا النوع من الاقتصاد السياسي غير المنتج أفسح المجال للمزايدات الطائفية والمذهبية والمناطقية وكرّس زعامات واختلق قيادات وعطل إمكانات التطوّر والتنافس والتدافع من أجل الخير العام.
كل حزب كان يمتلك ذاك «الصندوق» الذي يتلقى المال من روافد عربية وأجنبية. العراق أيام صدّام حسين كان الأكثر بذخا ؛إذ ضخ إلى لبنان مئات الملايين من الدولارات توزعت بالتساوي والتكافل بين المتنافسين على الكذب والنفاق. وبسبب هذا الوفر المالي حقق البعض ثروات والبعض أسس من الأموال الطائلة الصحف والمجلات والعمارات ووزع على الأنصار ما فاض من نقد ليضمن حصته السياسية وموقعه الأمني في دائرة الفوضى. بعد العراق نالت ليبيا الموقع الثاني في ترتيب تمويل الحرب. فقائد ذاك البلد كان يطمح في ترويج أفكاره وكان يبحث عن مقعد في مكان ما، يعطيه ذاك القناع الثقافي لإخفاء عيوب تحتاج إلى مساحيق لتغليف تلك الخطوط والتضاريس.
بعد ليبيا جاءت الجزائر وغيرها وبعدها أخذت تتدفق الأموال بتلاوين وأشكال مختلفة بحثا عن السياسة في بلد توقف فيه الإنتاج. وشكل هذا المال السياسي قوة ميدانية تأسست عليها سلطات محلية توزعت النفوذ والمواقع وتبوأت الزعامات وتنافست على إدارة الحرب بوصفها المصدر الوحيد للإنتاج.
المال السياسي أسوأ أنواع الاقتصاد؛ لأن وظيفته الأساسية إفساد الناس وتدريبهم على النفاق وأساليب المداهنة والمزايدة والمبالغة والصراخ والزعيق والالتفاف والتحايل والتلون وذلك لهدف بسيط الارتزاق لسد الحاجة أو لافتعال نمط حياة زائف. وهذا النوع من السلوك عانى منه لبنان في كل ساحاته التي شهدت من دون تمييز أو تفرقة ذاك النمط من التزوير والاحتيال.
مشكلة المال السياسي أنه يشجّع على الاقتتال. وحين تقع الواقعة يتحوّل الاقتتال إلى واسطة لإنتاج المال السياسي. فهذا النوع من الاقتصاد لا يحتاج إلى تعب وجهد وعمل وإنما إلى كلام مبرمج وسياسة تعتمد منهج التنميط لا التفكير. ومشكلته أيضا أنه يشجّع على التدمير ولا يأبه بالعمران البشري ولا يكترث للبناء والإعمار. فالمال حين يدور على الناس من دون حاجة للمرور في الإنتاج يتحوّل إلى سلعة لا قيمة لها في سوق الاقتصاد ولا دور لها في التراكم ولا معنى لها في التداول.
إنه مال فقط. ينفق بسهولة كما أخذ بسهولة. فالمال السياسي هو رأس مال هوائي لا يقوم على قواعد بشرية منتجة ولا يعتمد على اقتصاد ولا يرتبط بالإنتاج. وهذا النوع من الثروة النقدية لا يقيم ذاك الاعتبار للإنسان كقيمة منتجة ؛لأنه بكل بساطة ساهم في تحويل الإنسان إلى قوة تستهلك ما ينتج غيرها وتعطل على المنتجين الفعليين دورهم في العمل لكسب الرزق.
هذا بالضبط ما حصل في لبنان خلال فترة اقتتاله على مدى 15 سنة. فالحروب التي اندلعت على أرضه تكفلت بإنتاجها الأموال السياسية. ولأن الحرب تعني الدمار وتعطيل الإنتاج والبناء تشكلت طوال تلك الفترة مجموعة منظمات لا وزن لها ولا اعتبار ولا دور لها سوى التشجيع على الخراب في اعتباره وسيلة ارتزاق.
المال السياسي ضد الاستقرار. فالأخير يعطل دوره. كذلك ضد الإنتاج ؛لان العمل يفتح المجال للإنسان للبحث عن مساحة للحرية والاستقلال الذاتي وبالتالي تأسيس هامش للتفكير والتحليل بعيدا عن ثقافة الصراخ والتوتير والقلق والخوف على الحياة. وأيضا المال السياسي يشجّع الإنسان على الكسل ويطوّر عنده نزعة الخمول مادام الراتب الشهري سيدخل في الحساب من دون حسيب أو رقيب. وهذا كلّه في النهاية يشكل سياسة عامة لا تأبه للمؤسسات والمصانع والمزارع وغيرها من قطاعات اقتصادية مالية أو تجارية أو منتجة. فحين تكون دورة المال منفصلة عن دورة الاقتصاد والإنتاج تتشكل آليات سياسية خارج سياق الدولة والمجتمع تتغذى بمصادر مستقلة عن مساحة البلد وحاجاته؛ الأمر الذي يزيد من صعوبة فهم الأزمات أو التوصل إلى صيغة تفاهمية تساعد على تفكيك الأزمات.
هذا النوع من المال السياسي سيطر على الاقتصاد اللبناني مدة 15 عاما ثم اختفى نسبيا خلال سنوات التهدئة ؛ ليعود من جديد لقيادة البلد. وبسبب هذه العودة يمكن أن نفهم تمنع القوى السياسية اللبنانية في الاستجابة لمطالب الفعاليات الاقتصادية والمالية والتجارية والإنتاجية لفكرة التوافق على هدنة لمدة «مئة يوم» فقط.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1717 - السبت 19 مايو 2007م الموافق 02 جمادى الأولى 1428هـ