أنهى مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشئون الشرق الأوسط ديفيد وولش زيارته إلى لبنان بعد سلسلة لقاءات اشتملت البطريرك الماروني ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة والجنرال ميشال عون (8 آذار) والتيار المسيحي في قوى «14 آذار» ورئيس تيار المستقبل (سعد الحريري) ورئيس اللقاء الديمقراطي (وليد جنبلاط) وقائد الجيش ميشال سليمان، والرئيس السابق أمين الجميل.
هذه الجولة من اللقاءات اللبنانية جاءت في سياقات دولية وإقليمية تحمل إشارات سياسية يمكن البناء عليها لقراءة احتمالات يتوقع حصولها في الأشهر الاربعة المقبلة. في فرنسا تم التسلم والتسليم بين جاك شيراك (المتعاطف مع لبنان) ونيكولاي ساركوزي (المتعاطف مع تل أبيب). وفي موسكو التقت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبحثت معه الكثير من الملفات الساخنة منها عودة ملامح «حرب باردة» مع أوروبا (نصب شبكة صواريخ في شرق القارة) ومنها البحث في إمكان التوافق على مشروع قرار بشأن «المحكمة ذات الطابع الدولي».
وفي برلين استقبلت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل الرئيس الفرنسي الجديد وبحثت معه إمكان ترميم العلاقات القارية عشية انعقاد القمة الروسية الأوروبية لبحث نقاط التوتر بين الطرفين. وفي واشنطن عقد طوني بلير اللقاء الرسمي الأخير مع جورج بوش مؤكدا ثبات العلاقات البريطانية الأميركية. كل هذه اللقاءات الدولية تؤشر على احتمال حصول تبدلات جزئية أو طفيفة في المسارات العامة. وحين تحصل تعديلات في التوجهات الدولية فمعنى ذلك أن المناخات الإقليمية ستمر بدورها بتغييرات تتراوح بين البرودة والسخونة في مناطق التوتر وتحديدا في «الشرق الأوسط» وملفاته الممتدة من إيران والعراق إلى لبنان وغزة والسودان.
الزيارة التي قام بها وولش إلى العاصمة اللبنانية لا يمكن عزلها عن هذه السياقات المتبدلة في الفضاءات الدولية والإقليمية. ولبنان المحطم حجريا وبشريا خائف في هذا المعنى ويترقب تلك التبدلات بحذر وعدم اطمئنان لتلك المسارات الإقليمية والعربية. فالمنطقة شهدت خلال قمة شرم الشيخ ذاك اللقاء العملي كما وصفه وزير الخارجية السوري وليد المعلم بعد الانتهاء من اجتماعه مع رايس. كذلك شهدت المنطقة جولة مكوكية قام بها نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني أطلق خلالها تصريحات نارية ضد طهرن. وبعدها أعلن عن لقاء إيراني - أميركي قبل نهاية الشهر الجاري في بغداد يقتصر على الطرفين لبحث الملف العراقي.
زيارة وولش لبيروت ليست للسياحة والاصطياف وإنما هي محاولة لتخفيف القلق اللبناني من احتمال انقلاب الموقف الأميركي في المنطقة والإطاحة بكل تلك السياسات التي أعلنت واشنطن مرارا عن تمسكها بها وعدم التفريط بها.
اللبنانيون خائفون من احتمال عقد صفقات أميركية - إقليمية تسفر عن ترتيبات ميدانية معدلة تقارب تلك التي جرت في العام 1976 (دخول الجيش السوري إلى لبنان بذريعة وقف الاقتتال الأهلي الطائفي والفلسطيني) أو تكون على غرار ذاك الاستقطاب السياسي/ الطائفي الذي حصل في العام 1988 (انتهاء عهد الرئيس أمين الجميل ودخول البلد في مأزق دستوري أدى إلى قيام حكومتين واحدة برئاسة سليم الحص وأخرى برئاسة الجنرال عون). هذا الخوف لا ينطلق من فراغ وإنما يتأسس على تجربة لذلك أرسلت رايس مساعدها وولش إلى لبنان لتطمين كل الفرقاء وفي الآن تحذيرهم من عدم التفاهم. وبما أن التفاهم بين اللبنانيين من الأمور الصعبة وخصوصا في ظروف متوترة بلغ فيها الشحن الطائفي/ المذهبي درجاته القصوى يمكن القول من الآن إن البلد مقبل على تحولات أو متغيرات دراماتيكية سواء حصلت تلك الصفقات أو لم تحصل.
تحذيرات وتطمينات
تحذيرات أو تنبيهات أو تطمينات وولش لكل الأطياف اللبنانية تعني أن واشنطن بدأت تقرأ المعادلة في سياق لا ينسجم بالضرورة مع تلك السياسة التي اعتمدتها منذ التمديد القسري للرئيس أميل لحود. ولهذا تعمد المندوب الأميركي لقاء كل الأطراف وليس طرفا معينا. والتنويع في اللقاءات يكشف ضمنا عن احتمال بدء واشنطن في اتخاذ خطوات لا تتوافق مع تلك التي كانت تعلن عنها في مناسبات سابقة. والخطوات المحتملة قد تكون أقرب عمليا إلى نظريات «الشرق الأوسط الجديد» وإعادة ترسيم جوانب من خريطته السياسية.
هذا الاحتمال ليس فرضية وهمية وإنما يرتبط بسياقات مختلفة. فالرئيس الأميركي لم يعد يملك حرية اتخاذ قراراته من دون ملاحقة أو مراقبة داخلية لذلك لم يعد لبنان ولم يكن لبنان في كل المحطات يشكل له هذه الأولوية. فالاهتمام بلبنان جاء بناء على رغبة فرنسية، وحتى هذا لم يمنع واشنطن من إعطاء إشارة خضراء لتل أبيب لتحطيمه في عدوان الصيف الماضي. بوش الآن كما كان يركز على العراق ويرى أن معركته في بلاد الرافدين تفيض على كل الاهتمامات. والرئيس الفرنسي الجديد ليس بعيدا عن هذه الأجواء فهو يهتم ببلاد الأرز ولكنه يميل إلى الاستماع إلى «ماذا تريد تل أبيب» وفي ضوء إجابة حكومة إيهود أولمرت يقرر سياسته «اللبنانية» وهي بالتأكيد ليست متوافقة مع توجهات شيراك.
شكلت هذه المتغيرات عنصر قلق زادت من توتر اللبنانيين ورفعت من درجات مخاوفهم على مستقبل البلاد ووحدته واستمرار كيانه السياسي في حال أعيد إنتاج صفقات تشبه تلك التي تعرف عليها مرارا في العقود الثلاثة الأخيرة من تاريخه.
وولش إذا قام بجولته «اللبنانية» لتطمين القوى على اختلافها أن واشنطن ليست في صدد التغيير ولا تفكر في بيع بلاد الأرز مقابل تفاهمات وتوافقات قد تحصل عليها في العراق وأمكنة أخرى. ولكن هذه التطمينات رافقتها تحذيرات وتنبيهات من سلبيات عدم الاتفاق واحتمال تكرار أزمة دستورية على غرار 1988 (حكومتان لبنانيتان). التحذيرات والتنبيهات طغت على التطمينات (محكمة دولية) ودفعت الكثير من الأطراف إلى التساؤل عن معنى حصول «فوضى» لبنانية في الفترة المقبلة في حال فشلت الكتل النيابية في انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
الفوضى إذا واردة، كذلك فشل الاتفاق على رئيس، كذلك عدم التفاهم على «محكمة دولية» وغيرها من مشكلات وهي في مجموعها عناصر كافية لرفع نسبة القلق والخوف. وهذا ما انعكس على اللوحة السياسية لتوجهات القوى اللبنانية بين فريق يريد التأكد من عدم وجود صفقة بيع وشراء وفريق يراهن على احتمال حصول متغيرات دولية تصب في مصلحة تفاهمات إسرائيلية وإقليمية على حساب بلاد الأرز.
وولش هذا الذي أنهى زيارته للبنان في الأسبوع الماضي ونشر المخاوف إلى جانب التطمينات سبق له أن زار البلد الصغير خلال الأسبوع الأخير من العدوان الأميركي - الإسرائيلي في الصيف الماضي. آنذاك لفت مساعد وزيرة الخارجية النظر حين تعمد لقاء الأطياف المسيحية من قوى «14 آذار» واستبعد من اجتماعاته الأطياف المسلمة وتحاشى اللقاءات مع المجموعات السنية والشيعية والدرزية وهذا ما شجع على ظهور تكهنات عن احتمال وجود «أجندة سرية» تريد واشنطن ترويجها في ضوء تداعيات العدوان على لبنان.
الآن وبعد مرور تسعة أشهر على قرار تحطيم البلد الصغير يقوم وولش بزيارة جديدة في ضوء متغيرات دولية وإقليمية ستترك من دون شك بصماتها على لبنان. والجولة هذه المرة كانت أذكى من السابقة ولكنها اتخذت السياق نفسه، فهو تعمد لقاء الأطياف المسيحية من «8 آذار» و «14 آذار» على انفراد في السفارة الأميركية ثم قام بجولة تفقدية على القوى والمراجع المسلمة في الفريقين. فهو لم يكرر الخطأ السابق ولكنه تحاشى قدر الإمكان منع الجمع بين المسلم والمسيحي في اتصالاته وحواراته.
هذا التقسيم السياسي المفتعل بين الأطياف اللبنانية ليس بريئا ويدل على وجود «طبخة» على النار تنتظر نضوج صفقات معينة يرجح أن تظهر خلال الأشهر الاربعة على الشاشة الدولية. تطمينات وولش المشروطة بالتحذيرات والتنبيهات عن احتمال حصول فراغ دستوري وفوضى سياسية (أهلية) على غرار العام 1988 (حكومتان مسلمة ومسيحية) يفسر إلى حد كبير هذا الفصل الطائفي المذهبي وفك الارتباط بين المسلم والمسيحي في لقاءات مساعد وزيرة الخارجية مع مراكز قوى «8 و14 آذار». فهل لبنان على أعتاب مشهد تقسيمي يعيد إنتاج صيغة ترتسم في داخلها صورة «كيانات» واقعية على غرار ما يحصل في العراق أم هناك مشاهد أخرى ينبغي ترقبها؟ الوقت يتكفل بتقديم الجواب. فلننتظر.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1716 - الجمعة 18 مايو 2007م الموافق 01 جمادى الأولى 1428هـ